«عناق عند جسر بروكلين».. بوح المهاجر

من جديد، هموم المهاجرين العرب في بلاد العم سام، في الرواية العربية، هذه المرة في «عناق عند جسر بروكلين» رواية الكاتب عزالدين شكري فشير، التي تحتشد بعلامات الاستفهام، ويجتمع شخـوصها عند نقـطة اللا يقين، ويبحثون عن حصاد الرحلة، بعد سنوات طويلة من الهجرة إلى أميركا. وللأسف لم يكن الحصاد سوى كثير من الخيبات، والإحساس المرير بالوحدة في الغربة، واستحالة التلاقي بين الشرق والغرب، والحنين إلى بلد المولد.

وجد الكاتب المصري عزالدين شكري منطقة خاصة انطلق منها في «عناق عند جسر بروكلين» الصادرة عن دار العين المصرية في 219 صفحة، وكانت له بصمته المميزة في مضمون العمل، وكذلك في بنائه، فتعدد المرايا أثرى العمل، وأسمع القارئ أصواتاً مختلفة، حتى ولو تلاقت جميعها في حالة ما، وهي الأسى على ما آلت إليه حال كل واحد منهم، ولحظة المكاشفة التي جعلت الجميع يفتح كشف حساب لذاته، ويحاول مراجعة مسيرة حياته كاملة.

مؤهلات ومؤلفات

درس الكاتب المصري عزالدين شكري العلوم السياسية في جامعة القاهرة، التي تخرج فيها عام ،1987 ثم من المدرسة القومية للإدارة في باريس عام ،1992 وبعدها حصل على ماجستير العلاقات الدولية من جامعة أوتاوا في كندا. ونال شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة مونتريال عام .1998 عمل دبلوماسياً في الخارجية المصرية وفي أمانة الأمم المتحدة حتى عام ،2007 ويعمل حالياً أستاذاً للعلوم السياسية في الجامعة الأميركية بالقاهرة.

عُين أميناً للمجلس الأعلى للثقافة في مصر في إبريل الماضي، لكنه استقال بعدها بفترة قصيرة. ويكتب حالياً مقالاً يومياً في جريرة التحرير المصرية.

ومن روايات عزالدين شكري «مقتل فخر الدين» ،1995 «أسفار الفراعين» ،1999 «غرفة العناية المركزة» ،2008 و«أبوعمر المصري» .2010

تحفل الرواية ببوح فردي يعمّق الشعور بالغربة، فكل شخص يتذكر على حدة، يتقوقع على ذاته، يناجي نفسه، ولا يصرح للآخر، حتى ولو كان ذلك الآخر أباً أو ابناً أو حتى صديقاً، أو شخصاً من البلد ذاته الذي هاجر منه، لا تختلف الحال في حادث كبير، إصابة أب بالسرطان مثلاً، أو حادث صغير، كالتأخر عن موعد.

بطولة موزعة

في «عناق عند جسر بروكلين»، تتوزع أدوار البطولة بالتساوي، إذ يأخذ كل واحد من شخوص الرواية الرئيسين حيزه الخاص، ومساحته التي يسرد فيها حكايته من البداية وحتى النهاية، فالجميع مدعوون إلى حفل لم يتم، وعيد ميلاد غابت عنه صاحبته رغماً عنها، حالها حال معظم ابطال الرواية الآخرين، الذين اخطأوا «السبيل»، أو حالت الظروف دون حضورهم لسبب أو لآخر، وكانت الرحلة بمثابة عرض لمسيرة الحياة، وبينما يكون الزمن الفعلي للرواية هو اليوم المفترض للوصول إلى عيد الميلاد، يستعيد الرواة أحداثاً من أزمنة بعيدة، ويفصلون المحطات الفارقة في حياتهم، ويضفرونها مع اللحظة الآنية التي يعيشونها.

تبرز «عناق عند جسر بروكلين»، التي وصلت إلى القائمة الطويلة للبوكر العربية للرواية، تبرز معاناة المهاجرين العرب من التمييز في «أرض الأحلام»، وفي المقابل تُظهر نموذج العربي المتشدد، الرافض للتعايش، الذي يتخذ من أميركا داراً للجهاد، وليس وطناً للاستقرار والاندماج الحقيقيين. كما تحضر في الرواية تيمة الصراع بين الشرق والغرب، التي وفق الكاتب في مزجها بمسارات حياة شخوص الرواية، ولم تناقش كقضية فكرية منفصلة، ناتئة عن خط الرواية، وتوجهات أصحابها، إذ استطاع الكاتب مزج ذلك الصراع الحضاري في سياقه الإنساني، ضمن مواقف حياتية يتعرض لها أبطال العمل.

لقاء مستحيل

قد يستدعي ذهن القارئ، بمجرد مطالعة عنوان رواية عزالدين شكري، نظيراً مشابهاً، وهو «بروكلين هايتس» رواية الكاتبة المصرية ميرال الطحاوي، التي نافست على «البوكر» هي الأخرى، ووصلت إلى قائمتها القصيرة، وعلى الرغم من اتفاق العملين في محطة الانطلاق، بروكلين في نيويورك، وهموم المهاجرين، إلا أن لكل منهما عوالمه الخاصة، فميرال عرضت المعاناة من منظور أنثى تبحث عن خلاص وتحرر، وركزت على هموم آخرين، ليسوا بالضرورة أن يكونوا عرباً، بل نماذج اصطدمت بالواقع في أميركا. فيما سلط عزالدين شكري الضوء على المهاجر العربي، وخصص روايته لهمومه فحسب، حتى وإن حضر الآخر في خلفية الأحداث لا في مقدمتها.

تسيطر أميركا مكاناً على الرواية، إذ تدور معظم الأحداث في نيوريوك وولايات أخرى، ومع ذلك تبدو الأمكنة ـ في أحيان كثيرة ـ بلا ملامح أو روح، وبلا جماليات خاصة في أعين الرواة، وكأن الكاتب تعمد ذلك، ليكمل عدم إحساس كثير من شخوص العمل بالحيز الذي يحتويهم، إذ يحجب الشعور المتضخم بالغربة ما سواه، ويجعل العين كليلة عن رؤية الجمال. بينما في المقابل، تختلف الحال مثلاً حينما تنتقل أحداث الرواية إلى فضاء آخر، ففي مدن هولندا ليدن وأمستردام ولاهاي، كان المكان غير، انطلق قلم الكاتب متغزلاً فيه، ليتناسب ذلك مع حالة الحب التي جمعت بين طبيب مصري وسيدة هولندية (لقمان وماريك)، وعلى الرغم من الحب الممتد لسنوات، ظل كل منهما متمسكاً بقيمه وعاداته وكذلك موطنه، ولم تفلح نيويورك، الأرض المحايدة، في أن تزيل كل الخلافات، وتجعل «اللقاء المستحيل» ممكناً بين شرقي وغربية «في العاشرة تماماً رأيت وجهها المشرق يظهر رويداً رويداً على سلم محطة جسر بروكلين وشعرها الأصفر القصير يتهادى حول وجهها مع صعودها للسلم نحو الشارع. رأتني وابتسمت ابتسامتها العريضة الحانية. عند الدرجة الأخيرة من السلم مددت لها يدي فأمسكتها، اقتربت مني فاحتضنتها، لا مفر أنا أحبك، قلت، وأنا أحبك قالت، أنت توأم روحي قلنا، غفرت لك ما لقيته على يديك أنا الذي لا يغفر. واعتذرت هي عن الألم الذي سببته، وقلت لا داعي فقد كان الحق معها. ربما أعمى الحب بصري عن الصعوبات، لكنه لم يمنعها هي من رؤيتها، وهذا لا يجعل الخطأ خطأها. اعترفت بأنها كانت محقة، وبأن حبنا كان مستحيل التحقق. لا أحد منا يمكنه أن يصبح شخصا آخر».

وجهات أخرى

تترك الرواية مدناً أميركية، وتقصد وجهات أخرى، فتحط أحياناً، وإن كان ذلك بشكل سريع في القاهرة، الحيز الذي يعيش في ذاكرة بعض شخوص الرواية، وكذلك دارفور التي سافر إليها أحد أبطال العمل، ضمن مهامه مبعوثاً في إحدى لجان الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين، وكان ذلك المكان محطة مفصلية في تاريخ ذلك الشخص (يوسف) إذ فتح عينيه على مأساة كبرى، وشاهد فيه ما جعله يغير قناعاته، تاركاً الأمم المتحدة، وأميركا كذلك، متوجهاً إلى مونتريال، ليستقر فيها، متعللاً بأنه بحاجة إلى هدوء ليؤلف كتاب، بينما كان هو بحاجة إلى تناسي المآسي التي كان شاهداً عليها في تلك البقعة من العالم، يروي مشهداً مما عايشه هناك قائلاً: «سرت مع جمع غفير، وسمعت حوقلات ودعاء وولولة جديدة، وهناك رأيت الجثتين. كأنهما بقايا سيارة محترقة. لم ألتفت أول الأمر لهما عندما اشار لي صبي بأن هاتين هما الفتاتان. فقط عندما دققت النظر أدركت أن هذين الشيئين بقايا بشرية. قطعتان من السواد المتفحم ممتزج بهما بقايا قماش محترق.. علمت أن الجثتين المحترقتين للفتاة التي كنت أحدثها اليوم وأختها المغتصبة رقم (2). أشعل الجنجويد فيهما النار ووقفوا يشاهدونهما تحترقان حتى تفحمتا، ثم غادروا وهم يكبّرون».

الأكثر مشاركة