عرض أردني مصنوع بعناية.. و«ديزدمونه» في مواجهة العنف
حين يحمل الممثل العالم على أكــــتافه
لم تكن الليلة الخامسة من أيام مهرجان الفجيرة الدولي للمونودراما عادية، عايش جمهور هذه الدورة التي قدمت آخر عروضها أمس، جرعة مسرحية دسمة، ولعله يمكننا القول إنها كانت ليلة الممثل بامتياز. عرضان الأول من الأردن والثاني أسترالي بولندي كان فيهما الممثل علامة فارقة ونقطة مضيئة على الخشبة، وعلى الرغم من الاختلاف الكبير في مزاجي العرضين وأدواتهما، إلا أنهما كانا من العروض الفارقة والأكثر إشراقاً في هذه الدورة.
أول فكرة تفرض نفسها بعد حضور المسرحية الأردنية «أكلة لحوم البشر»، أنها تجربة تحققت لها كل أسباب ومقومات النجاح. من اللحظة الأولى يبدو جلياً أن ما يحدث أمامنا على الخشبة هو لأشخاص يعرفون تماماً ماذا يريدون، ولديهم ما يكفي من الإمكانات للتصدي لواحد من أصعب نصوص الكاتب السوري الراحل ممدوح عدوان، وأكثرها تضمناً لتفاصيل وتحولات تشخيصية ونفسية وحقائق هدفها الأساسي تعرية جملة من الظروف الاجتماعية والسياسية والبحث في جوهر الحرية. نص هذا العمل يقوم على سلسلة متداخلة من العوالم التي تتقاطع وتتشظى في بناء درامي عبثي متعب ومرهق. سلسلة من حالات التعرية لأفكار ومضامين ومسلمات كبيرة، يأخذنا هذا العرض في رحلة تنهدم وتكشف وتنفضح فيها قناعات كبيرة نؤمن بها، ليس على صعيد الفرد فقط بل على المستويين الإنساني والوطني بشكل عام.
في هذا العرض كنا أمام اقتراح جمالي مثير للدهشة تبدأ من شكل الفرجة المقترحة لعمل يقوم أساساً على مكان وزمان افتراضيين. في هذا العرض نحن أمام صانع فخار خلق عوالمه وصنعها بيديه ليعايشها ويحاسبها في عزلته التي يعجز عن الفرار منها، بشر كثر يولدون أمامنا من ذاكرة تتحرك فيها الشخصيات، تظهر وتختفي، ولا تتوقف عن ملاحقة ذلك الرجل المأزوم الذي تتنازعه حلات نفسية لا نهائية تضعه طوال فترة العمل على حافة الانهيار.
كل شيء مدروس ومرسوم بعناية واضحة في هذا العرض، مثل هذه النوعية من العروض، وعلى الرغم من أنها تبدو متماسكة البنيان، إلا أنها هشة مثل الفخار، ولا تحتمل أي زلة صغيرة، وهنا يبدو واضحاً الجهد الكبير الذي بذله الممثل محمد الإبراهيمي لحمل مسؤولية تجربة منهكة وصعبة المراس، الإبراهيمي في هذا العرض تحدى نفسه تماماً، واستطاع أن يتحرك ببراعة لافتة بين عوالم وشخصيات تحضر وتغيب في بنية درامية يبدو الخط الفاصل فيها بين الحقيقية والوهم على درجة كبيرة من الهشاشة. ثمة ضبط وتحفيز مدروس للانفعالات من الوقوع في مبالغات تشخيصية، ليس أمام الممثل في مثل هذا العرض إلا أن يكون كبيراً يتسم بدرجة عالية من الوعي الذي يجعله قادراً على هضم كل تلك العوالم والشخصيات وإعادة إنتاجها مرة ثانية على الخشبة، لم يكن الممثل في هذا العرض معنياً بإظهار نفسه ممثلاً متمكناً، كان يعمل وفق منظومة العمل من دون «تنشيز» أو عرض للقدرات الشخصية، الممثل هنا وضع كل طاقته وخبرته ليتماهى مع الكلمة والجملة بتركيز لم يجعله ينسى أو يخطئ في المميزات الشكلية والوصوتية لأي شخصية في العرض، في لحظات كثيرة نشعر أننا أمام كذبة كبيرة يرويها لنا شخص مختل عقلياً، ثم تنقلب اللعبة لنصير أمام الحقيقة في أبهى تجلياتها، وسرعان ما تنهار أمامنا اللعبة وتنعطف باتجاه آخر. ثمة إيقاع لا يحتمل الخلل، أزمنة صغيرة منضبطة لا مكان فيها للخطأ، وهنا يبدو حجم الاشتغال والعمل المبذول لإنجاز مثل هذه التجربة.
أنجز المخرج علي الجراح في هذا العرض فرجة ممتعة، ربما كنا أمام مساحة مزدحمة، وبذخ في استخدام الفنيات، لكننا في نهاية المطاف كنا أمام عمل مصنوع بعناية وذكاء واجتهاد إبداعي. بدا واضحاً العناية التي أولاها المخرج بأصغر التفاصيل، بحيث لم نكن أمام أي شيء مجاني وتزيني، مساحة الفرجة موظفة بالكامل وتوافر للممثل كل ما يلزمه ليبقى متقداً وممسكاً بتفاصيل لعبته التشخيصة المتداخلة، أخذ المخرج علي الجراح نص ممدوح عدوان إلى آفاق واسعة، لعبة الإعداد في هذا النص لم تحاول لجم مقولات النص، ولم تحاول التملص من تعقيداته وتقلباته، بل بدا الرهان واضحاً على تدعيم مقولات النص بمدلول بصري عميق وجميل، ولابد أيضاً من الإشادة بالطاقم الفني للعمل المكون من: عناد عيد، فراس المصري، محمود المجالي.
«ديزدمونه»
إن كنا تحدثنا في عرض المسرحية السابقة عن الممثل في لحظات تجليه، والمخرج حين يكون مدركاً ومتماهياً تماماً مع ما يفعل لابد إذاً من الوقوف عند العرض البولندي الأسترالي نموذجاً ناصعاً على ذلك. الاشتغال في هذا العرض لا يتمحور في شكل الفرجة، بل يمكننا الوقوف عن أصغر التفصيلات والتكوينات التي تحققت عند الممثلة البولندية بولانتا جوزكيويتش التي جسدت ديزدمونه المقتبسة من مسرحية عطيل، وهي واحدة من أكثر أعمال شكسبير رمزية.
الاقتباس في هذا العرض لا يستسلم لما هو موجود في النص الشكسبيري. قامت بولانتا جوزكيويتش أيضاً في خلخلة البنية الأدبية الصرفة، طوعت اللغة وذهبت بها إلى منطقة تتصادم فيها مع الكثير من القوى التي حاولت تدنيسي ديزدمونه التي خرجت من معركتها الجديدة نقية وبيضاء كالثلج، على الرغم من رائحة الدم والعنف المتموضعين في تفاصيل الكلام والصراع.
تبني جوزكيويتش عرضها على أسس عقلية صرفة، العقلية هنا ليست فقط في آلية الاقتباس والتصرف الأدبي، بل أيضاً على مستوى صياغة الشكل البصري الذي ينطلق من حالة كفنية طقسية تتطور ببطئ مستفز من خلال خلق علاقة جدلية في الصراع الدرامي بين لحظته المعروفة في عطيل شكسبير ولحظات مقترحه تحول الأزمة إلى خيار بين الفناء أو الاستسلام لصوت إياغو ايقونة الشر وسارق الفرح.
تستفيد جوزكيويتش من مناخات طقوسية لبناء سلسلة من الحالات التي تخلصت من الانفعال كضرورة درامية لتبقى في دائرة الفعل والفعل المضاد. ديزدمونه هنا تتحدى ليس ظرفها التاريخي فقط، بل مجموعة من الظروف المبتكرة التي تنقل الصراع (الديزديموني) إن جاز التعبير من جوهره في الحكاية الشكسبيرية إلى مكامن ومفاصل تتشابك فيها مع الوجع النسوي بمعناه الوجودي المطلق.
الممثلة والمخرجة في هذا العرض وجدت لنفسها مجموعة من الحلول الذكية جدا خصوصاً في ما يتعلق بالزي الذي تم توظيفه بعشرات الحالات، الزي في هذا العرض كان معادلاً للزمان والمكان وكان نقطة التحول والانتقال السريع بين الذاكرة والتجليات النفسية والجسدية المتداخلة في بينية صراع الشخصية للدفاع من طهريتها التي تأخذ هنا لمحات قدسية وتتسامى عن الكثير من القذارات الدنيوية.
كان لافتاً في هذا العرض ذلك التقشف في كل شيء، ليس فقط على مستوى الأزياء والديكور والسينوغرافيا، بل أيضاً في لعبة التجسيد. قامت الممثلة المخرجة بتوظيف التغيرات النفسية من خلال أداء يستمد عمقه من مرجعياته النفسية وليس الشكلية، ولذلك كانت الممثلة تمرر تفصيلات صغيرة جداً في حركة الجسد الذي بدا منقسماً إلى أجزاء يلخص كل واحد منه حالة مختلفة عن الأخرى، كأنها كانت تنقل الصراع من حالته الخارجية إلى صراع يدور في أعماق ديزديمونه، وصولاً إلى نهاية العرض الذي تستجمع فيه الشخصية كل تلك التفرعات في الصراع الذي خاضته في رقصة طقسية تعيد العمل من ناحيته الذهنية إلى لحظته الأولى.
مثل هذه العروض التجريبية التي تحاول أن تقترح لنا فكرة جديدة حتى ولو كانت غير مقبولة أو مقنعة تستحق منا كل الاحترام. ما يحدث في قاعات العرض من فوضى وأحاديث جانبية وهواتف نقالة تعجز عن لجم إزعاجها كل التنبيهات، مؤش إلى أننا كمتلقين عرب مازلنا بحاجة إلى أن نتعلم احترام المسرح، قبل أن نفكر في أن نكون فاعلين ومنتجين في عوالم هذا الفن الذي يختصر العالم.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news