تلخيص التاريخ من منظور شخصي
وصلت عروض الدورة الخامسة من مهرجان الفجيرة للمونودراما، إلى ذروتها الفنية، أول من أمس، ما عايشه الجمهور في هذه الليلة الختامية للمهرجان لن يكون عابراً في الذاكرة، إن تحدثنا عن العرض الألماني الآتي من روسيا فسنتحدث بالضرورة عن تجربة مسرحية استثنائية تسنهض الخشبة، وتستفيد من ذلك الفضاء لتقديم فرجة توافرت لها كل مقومات النجاح.
وإن تناولنا عرض رفيق علي أحمد المستعاد وهو بعنوان «قطع وصل»، فإننا أيضاً سنتوقف أمام ممثل قدير لم يكن عليه في هذا العرض الاسترخاء والتفرغ لتقديم فرجته، بل كان في مواجهة ديكور سيئ التنفيذ راح يسقط أمامه لتظهر خبرة هذا الممثل في تجاوز هذه المشكلة الكبيرة والسيطرة عليها لمواصلة عرضه الذي يستند بشكل جوهري إلى الديكور.
في هذه الليلة الختامية كنا أمام الممثل بأبهى صورة. تأكيد لقدرة المسرح على أن يكون تلخيصاً مدهشا للحياة. في كلا العملين، الألماني واللبناني، ثمة سيرة إنسانية تجعل من المواجع الشخصية انعكاساً للتاريخ، تستحضر التفاصيل الصغيرة لتجعل منها سياقاً ومرآة لتعرية الزمن والمجتمع والتحولات السياسة والاجتماعية.
العرض الألماني لفرقة المسرح الروسي «اعترافات قناع» وضعنا أمام الإبداع بأبهى صوره، تجربة ستترك أثرها في الذاكرة طويلاً، إنها تجربة مسرحية بامتيازات كثيرة، إعلاء لشأن العمل الجماعي في العمل المسرحي، ففي هذا العرض لا نعرف اين ينتهي عمل المخرج، وأين يبدأ اشتغال الممثل، إنهما كتلة فنية واحدة، كنا أمام نص مقتبس من واحدة من أكثر الروايات العالمية إشكالية وصعوبة، وهي للياباني يوكيو ميشيما، وفي حضرة ممثل استثنائي تجتمع فيه كل الإمكانات التي تخوله دخول مغامرة مفتوحة مثل هذه، وأيضاً كنا أمام عقلية إخراجية قادتنا من دهشة إلى أخرى حتى اللحظة الأخيرة من العمل.
مكاشفة جريئة
هل كانت اللغة حاجزاً، ربما، لكن الحالة الفنية المتطورة لم تترك للجمهور فرصة للتملص رغم طول مدة العرض، لاشك أن مجرد فكرة تجسيد رواية «اعترافات قناع» على خشبة المسرح هي مغامرة كبيرة جداً، فهذه الرواية الكبيرة لصاحبها ميشيما صعبة المنال نظراً لتلك التفاصيل النفسية العميقة التي تنهض عليها. تضع هذه الرواية الذات البشرية في موازاة التاريخ، تعيد بناء هذا التاريخ من منظور فردي بحت، كي تعيش لابد أن تكون قوياً، أن تتصالح مع نفسك، وأن تبحث وسط كل أقنعتك عن جوهرك، العمل الذي أسسه صاحبه على جملة من القوى الفلسفية الجدلية يندرج تحت مسمى السيرة الذاتية التي تحمل في طياتها سلسلة من المكاشفات الشخصية الجريئة والتي كانت وقت صدروها صدمة حقيقية، في الرواية تمجيد للقوة الذكورية، ونفور واضح من الضعف الأنثوي، بطل المسرحية الفتى الشاحب والمريض يجسد بالمعنى الأشمل حال الدول المستضعفة التي تعجز عن اكتشاف ذاتها، فتختبئ خلف الكثير من القيم التاريخية والدينية؛ لأنها عاجزة عن مواجهة العالم.
وإن كانت «اعترافات قناع» في نظر البعض نقدا للفاشية اليابانية، أو قراءة في انهيار اليابان كما في شخصية بطل الرواية، الذي بدوره نموذج يضل سبيله نحو منطقية الأشياء، فإن هذا الانحراف هو مسعى باعتباره الشيء الغامض والأثير الذي تسعى له أفكار ميشيما.
الإعداد المسرحي لهذه الرواية لم يغربها، لم يأخذها إلى منطق آخر غير المنطق الذي تأسست عليه، حتى في الفضاء والسينوغرافيا بدا ذلك التأكيد على هوية الرواية ومرجعيتها اليابانية، حتى النهاية التي تمثل الانتحار على طريقة الساموراي حافظت عليها المخرجة ولم تتجاوزه. التغيير أو الإضافة الوحيدة في لعبة مسرحة النص كانت في خلق مبررات بصرية وظرفية للممثل في أن يستعيد كل هذا التفاصيل المنسية من حياته. الحل كان في الحقائب التي شكلت خزانة الذكريات التي تأخذ بطل المسرحية في تلك الرحلة الفرجوية الاستثنائية.
لاشك أن الممثل أندريه موسكوج قدم ما يسيل له لعاب أي ممثل يبحث عن دور عمره على خشبة المسرح. في هذا العرض كان الممثل حاضرا وشاخصا كعلامة فارقة على الخشبة. والسؤال الذي يتردد طوال مشاهدة هذا الممثل: ماذا يمكن لأي ممثل كبير أن يفعل على الخشبة أكثر من ذلك؟ مخرجة ومنتجة هذا العرض إنا غوردون أسست لفرجة كبيرة لخصت فيها المقولات والمراحل الزمنية والتحولات الدقيقة في الشخصية من خلال خلق مساحات وحلول بسيطة، استطاعت من خلالها استيعاب الانعطافات والتحولات الشخصية، والسياق التاريخي لشخصية العمل التي تتحرك في ماضيها تعود إليه من خلال وعي آخر لا لتحاسبه بل لتؤكد على كل تلك الخيبة من نكران الذات، والتستر خلف أقنعة. لا تحمل المسرحية دعوات مثالية، إنها بكل بساطة تبحث في مفهوم الصدق مع الذات وتعممه وفق منظور تاريخي وأممي.
استطاعت المخرجة تحويل سودواية النص إلى طاقة إبداعية مفرحة ومبهجة. في أحيان كثيرة بدت الفرجة أقرب إلى مشهديات سينمائية، ثمة عناية مدهشة بالصورة المسرحية التي كانت تتخلق أمنا من دون أي تكلف. كنا أمام فضاء مسرحي مفتوح على كل احتمالات جمالية غير منتهية.
رفيق علي أحمد
يقول رفيق علي أحمد في مسرحيته «قطع وصل» كنت أريد أن أصبح ممثلاً لأتحدث عن الآخرين وأنسى همومي الشخصية. تحققت أمنية رفيق في أن يكون ممثلاً، لكن رغبته في تجاهل همه الشخصي لم تتحقق، الوجع الشخصي عند رفيق علي أحمد هو صورة عن مواجع وطنية كبيرة. السيرة الذاتية هي جزء من سيرة وطن. الغريب وربما المؤرق في مسرحيته التي عرضها أول من أمس في اليوم الأخير من مهرجان الفجيرة الدولي للمنودراما أن الهموم والمواجع التي تتناولها منذ إنجازها قبل أكثر من 10 سنوات لاتزال على حالها، إن لم نقل إنها تضخمت وتعقدت أكثر.
استعادة «قطع وصل» بعد كل هذه السنوات تضعنا أمام مأزق حقيقي، التعصب الديني والطائفي الذي تنتقده هذه المسرحية لم يتراجع، لم يعد حالة لبنانية كما هي الحال في العمل، نحن اليوم أمام وحش طائفي مرعب ينهش بنيان الكثير من الدول العربية، في لحظات كثيرة يبدو أن هذه المسرحية كانت تتنبأ وها هي اليوم تؤكد هذه النبوءة وتوثقها.
تحمل رفيق علي أحمد في هذا العرض ما لا يُحتمل، كان في مواجهة ديكور ينهار أمامه قطعة تلو الأخرى، وكان عليه احتمال تداعيات هذا الأمر على البناء الفني للعرض، وعلى مزاجه الشخصي كممثل. هنا بدا رفيق الممثل الخبير في السيطرة على ما يحدث أمامه من دون أن تختل اللعبة، خصوصاً أن مكامن الخلل لم تكن في أشياء ثانوية بل في تفصيلات جوهرية كالخلفيات والقطع العاكسة.
في هذا العرض، وهو من تأليف رفيق علي أحمد وإخراج ناجي صوراتي، لا نبتعد كثيراً عن اللعبة التي يحبها رفيق الممثل، المسرح كفضاء مفتوح، مسرح الفرجة الذي يتقاطع مع المورث الحكائي العربي، تعقب التفاصيل المجتمعية الصغيرة التي تشكل في نهاية المطاف بانوراما عامة لحراك مجتمعي كامل، متعة الحكي، صورة الراوي وحامل الحكايا، التماهي بين اللحظة الراهنة والتاريخ ببعديه التأريخي والمثيولوجي، جميعها عناصر أساسية تفتح العمل على آفاق واسعة. نحن أمام شخصية محاصرة مكانياً، لكن عقلها الهذياني المأزوم يفتح أمامنا نوافذ نُطل منها على أحداث تبدو متفرقة ومنفصلة لكنها تتجمع وتتقاطع في بنية درامية لا يبدو هدفها خلق منطق للأحداث والوقائع بل التأكيد على حدة الانفصال بين رضوان وحياته المضنية. مصح الأمراض العقلية في هذا العمل ليس إلا صورة مصغرة راهن الوطن.
تكاشف «قطع وصل» بنية حياتية هشة ومتناقضة. أوطان منخورة ومنكسرة من الداخل. إنها بشكل من الأشكال تشبه عنوان العمل، كيانات مقطعة وموصلة تفضحها المآزق والملمات، أو هي باختصار كما يقول رضوان مكونات مشتتة معلقة من «عراكيبها».
تنسجم بنية العمل الأدبية مع التداعيات الذهنية لشخصية رضوان، لا يقين في هذا العمل، القطع العاكسة في الديكور تؤكد هذا التشظي، تقف حاجزا بين الوهم والحقيقية، في هذا العالم من اللامسلمات يصير التأثير في المتلقي مهمة ليست سهلة وليس أمام الممثل خيارات كثيرة إما أن يجيد تمرير أوهامة وقصصه أو البقاء على مسافة بعيدة من الجمهور.
لن نقول ان هذا العرض الذي جال به صاحبه الكثير من الدول، كان بأحس حالاته، لكننا في الوقت ذاته لا نستطيع كتم ما يمرره العمل من إشارات مؤلمة، أين هي الحقيقة إذاً؟ من يمتلكها؟ أين تكمن؟ هي بعض أسئلة يطرحها العمل ويبدو أننا لا نملك الجرأة على الإجابة، ثمة دعوة حقيقية للمكاشفة، للتخصل من إرث ثقيل يطبق على أنفاسنا، لكن يبدو أن المصارحة في هذا الزمن لا ينطقها إلا المجانين.