«موسوعة المسرح العربي» تعيد الحياة إلـــــى تجارب منسيّة

رحلة مع «أبـوالـــفنـون» من المحيط إلى الخليج

مشهد من مسرحية «النمرود» بأداء فرقة ديار الفلسطينية. تصوير: مصطفى قاسمي

رحلة متعددة المحطات والأزمنة، يقطعها قارئ موسوعة المسرح العربي، الصادرة أخيرا عن مجموعة مسارح الشارقة، إذ تتنقل الموسوعة بين المسارح العربية من المحيط إلى الخليج، وتوغل في الزمن باحثة عن بدايات ذلك الفن، ورواده في المنطقة، والتي تصل إلى قرون.

تنشد الموسوعة إعادة الحياة إلى تجارب مسرحية منسية، وتعريف أبناء اللغة الواحدة بإبداعات بعضهم بعضاً، فالشامي مثلا قد لا يعرف شيئا عن ماضي، ولا حاضر «أبو الفنون» في المغرب، والعكس صحيح، وكذلك المصري قد لا يتذكر اسم عمل مسرحي واحد لفرقة خليجية، فالموسوعة التي تقع في 712 صفحة من القطع الكبير، تضم بين دفتيها تعريفا شبه شامل بحال المسرح في بلدان الوطن العربي، وتمنح مطالعها جرعة كبيرة من التبصر بأحوال المسرح منذ خطواته الأولى في العالم العربي، وأيضا لا تهمل الموسوعة، التي اشترك في إعدادها مجموعة من الباحثين المهتمين بالشأن المسرحي، الهموم الحالية للخشبات العربية.

تمنح الموسوعة بعضاً من أنفاس الحياة إلى المسرح، الفن الأكثر معاناة عربياً، وتسلط عليه الضوء قيمة إبداعية مهمة، وتسد فجوة في المكتبة العربية، إذ تندر الدراسات المتخصصة في ذلك اللون، وإن وجدت فهي تكتفي بحيز جغرافي ضيق، قد لا يتخطى القطر الذي ينتمي إليه صاحب الدراسة.

ومن النادر جدا أن يعثر القارئ على كتاب واحد يغطي تلك المساحة العريضة من المسارح العربية، اللهم إلا في كتاب الراحل الدكتور علي الراعي عن المسرح في العالم العربي، والذي صدر منذ عقود، وجرت في النهر بعد إصداره مياه كثيرة، ومن هنا تأتي أهمية الموسوعة التي تسد على الأقل حاليا فجوة من فجوات المكتبة العربية.

من الشام البداية

فريق

اشترك في إعداد موسوعة المسرح العربي مجموعة من الباحثين، وهم احمد طوالة، أكرم اليوسف، السر السيد، حسام عطا، ذياب شاهين، سعيد جاب الخير، عباس الحايك، عبدالناصر حسو، محمد حميد السلمان، محمود أبوالعباس، محمود الماجري، ميسون علي، ونادر القتة. بينما رأس تحريرها حسام ميرو، ومدير التحرير باسل أبوحمدة.

في كل بلد تحط فيها الموسوعة، توجد محطات مفصلية، وتكون نقطة الانطلاق من سورية، حيث أحد الآباء المؤسسين لذلك الفن في الوطن العربي، وهو أبوخليل القباني، صاحب التجربة المبكرة، والتي بحثت لنفسها عن فضاء آخر، بعدما ضاقت بها بلاد الشام، فالرجل الذي بدأ تجربته في منتصف القرن التاسع عشر، رحل إلى مصر إثر مضايقات عدة تعرض لها في سورية، إذ هدد، وحرق مسرحه، ما اضطره إلى الهجرة إلى مصر.

بدت تجربة القباني، رغم أنها تعد الأولى في المنطقة، شبه مكتملة، فهناك فرقة كاملة تتلقى تدريبات، وصاحبها مهموم بالديكور والملابس والمكياج، وغيرها من العوامل التي تسهم في إنجاح العمل المسرحي. ولم يتوقف النشاط في سورية إثر رحيل القباني، بل توالى تأسيس فرق جديدة، قدمت أعمالاً بعضها مقتبس من إبداعات عالمية، وبعضها الآخر وجد في أبطال التاريخ العربي ملاذاً ومحفزاً على بعث الهمم.

تعددت الأجيال المسرحية وكذلك النوادي التي اهتمت بذلك الفن، حتى أتت فترة ازدهار المسرح السوري، حسب الموسوعة، خلال فترة الستينات من القرن الماضي، بعدما استقطب المسرح قامات أدبية، من بينها الراحلون ممدوح عدوان ومحمد الماغوط وسعدالله ونوس، بالإضافة إلى ممثلين ومخرجين عشقوا ذلك الفن، وعملوا على نهضته. وحينما فاجأت الجميع هزيمة يونيو 67 تصدى المسرح لها، وبحث أهله عن أسباب الانكسار، وكيفية لملمة الجراح.

تراث وهموم

اللافت في بحوث عدة في الموسوعة هو وقفات البعض عند البدايات طويلاً، والتي تشابهت كثيراً، إذ حاول باحثون العودة إلى الوراء زمنياً، ربما لآلاف السنين، محاولين إيجاد نظير للمسرح الحديث بكل عناصره في تراثنا، مشيرين إلى المسارح الأثرية الموجودة في بعض البلدان، وكذلك النقوش التي تثبت تأصل ذلك الفن، من وجهة نظر مشاركين في الموسوعة، في هذه المنطقة من العالم.

ومن بين الدلائل التي استدل بها أولئك الباحثون فنون طقسية، وتمثيليات تقدم خلال توقيتات معينة، مثل تلك التي تعيد مشاهد استشهاد الإمام الحسين، وأيضا فنون خيال الظل و«القراقوز»، والفرق الجوالة في الساحات، وغيرها من الظواهر التراثية التي وجد فيها بعض الباحثين «مسرحة» ما، ووجوه شبه تحيل إلى وجود ذلك الفن في التراث، كل ذلك من أجل ألا تكون البدايات كلها غربية صرفة.

تتبع «موسوعة المسرح العربي»، هموم المسرح منذ ولادته، وتحاول تلخيص المعوقات التي اعترضت طريقه، بداية من الموارد الشحيحة، واعتماد محبي المسرح على جهودهم الفردية، مروراً بالتعصب، وعدم رضا بعض المتشددين عن ذلك الفن الذي يعدونه مروجاً للفساد، وصولاً إلى افتقاد كثير من الخشبات العربية إلى العنصر النسائي، ومحاولات التغلب على ذلك بأساليب شتى كإسناد الأدوار النسائية إلى رجال، أو البحث عن نصوص «ذكورية الطابع».

فلسطين

بعد سورية ولبنان، تتوقف الموسوعة، عند التجربة الفلسطينية في ميدان المسرح، والتي تشابهت مع نظيرتيها في سورية ولبنان، خصوصاً في البدايات، والتي كانت في مدينة القدس، بمدارسها العامرة، التي درست المسرح، ومارست أنشطته المختلفة، ووصل بعد ذلك عدد الفرق المسرحية في القدس إلى نحو 30 فرقة «غير أنها كانت ضعيفة المستوى»، كما ذكرت الموسوعة، التي عرجت على مرحلة تشتت شمل المسرحيين الفلسطينيين بعد نكبة ،48 لافتة إلى أن فرقاً أخرى لم تغادر الوطن، وبقيت تقاوم، وبرزت العشرات منها، ومارست دورها النضالي على مسارح فلسطين رغم أنف المحتل.

في مصر أيضاً كانت هناك تجربة مسرحية خاصة، إذ وجد البعض فيها، ملاذاً أخيراً، ومسرحاً للانطلاق، كما فعل كل من القباني والنقاش. وفي مصر أيضاً كثرت أسماء رواد شغفوا بأبوالفنون، وصاروا سفراء لذلك الفن عربياً، من جيل يوسف وهبي، وعزيز عيد، وفاطمة رشدي، ونجيب الريحاني، إلى زكي طليمات وسعد أردش، وكرم مطاوع، وجلال الشرقاوي، وغيرهم كثير. أما في ميدان التأليف المسرحي فبرزت أسماء عدة، قدمت الكثير من النصوص الثرية، وعرضت أعمالهم في غير بلد عربي، كمحمد تيمور، وتوفيق الحكيم، ألفريد فرج، وسعدالدين وهبة، وغيرهم.

الخليج النهاية

رتبت الموسوعة محطاتها المختلفة، وفقاً لتاريخ ظهور المسرح في هذا البلد أو ذاك، فبينما كانت البدايات في الشام، كانت محطة النهاية في دول الخليج المختلفة والتي تأخر فيها ميلاد المسرح مقارنة بغيرها.

فالتجربة الإماراتية المسرحية كانت ارهاصاتها الأولى في الخمسينات من القرن، تزامنا مع «انطلاق التعليم النظامي عام ،1953 حين افتتحت أول مدرسة رسمية في الإمارات، هي مدرسة القاسمية الابتدائية للبنين. وقد تولى بعض أساتذتها مهمة تعريف الطلاب بفن المسرح، وتدريب مجموعة منهم على التمثيل، أثناء حصص النشاط أو المعسكرات الكشفية، كما قاموا بتقديم بعض العروض المسرحية في المناسبات». وفي 1957 قدمت المدرسة ذاتها مسرحية شعرية بعنوان «جابر عثرات الكرام»، من تأليف محمد دياب الموسى. ومن المدارس ونشاطاتها المسرحية البسيطة، ولدت بعد ذلك فرق في أندية وجمعيات، وضمت أسماء كثيرة كان لبعضها شأن كبير في مجالات مختلفة. وبعد الاتحاد أنشئت مسارح عدة، وبرزت الكثير من الفرق الجديدة، والتي وصلت إلى نحو 21 فرقة موزعة على إمارات الدولة المختلفة. تختتم الموسوعة بملحق مخصص لرائد مسرحي، وأحد عشاق ذلك الفن، وهو صاحب السموّ الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، والذي فتن بـ«أبوالفنون» مبكراً، فألف واشترك في تمثيل مسرحية «وكلاء صهيون»، والتي أغضبت الوكيل البريطاني حينها، وأغلق على إثرها المسرح. ومن مؤلفات صاحب السموّ حاكم الشارقة المسرحية «عودة هولاكو»، و«القضية»، و«صورة طبق الأصل»، و«الإسكندر الأكبر»، و«شمشون الجبار»، و«النمرود»، و«الحجر الأسود».

تويتر