ثروت عكاشة.. مــــسيرة عمر مع الثقافة
مشروعات ثقافية، وحكايات سياسية، وفنون راقية، وأحلام عامة وخاصة.. عوالم تبحر فيها مذكرات الراحل الدكتور ثروت عكاشة، «فارس» الثقافة المصرية الذي ترجّل قبل أيام، تاركاً وراءه للمكتبة العربية، وللساحة الثقافية، الكثير، مؤلفات وترجمات بالجملة، ومتاحف ومكتبات ومسارح وقصور ثقافة ومعاهد فنون، وغيرها من المشروعات التي أسست على عين الراحل.
مؤلفات وترجمات وجوائز من أبرز مؤلفات الدكتور ثروت عكاشة موسوعة «العين تسمع والأذن ترى»، وترجمة عملي الشاعر أوفيد «مسخ الكائنات» و«فن الهوى»، وأعمال جبران خليل جبران «النبي»، و«حديقة النبي» و«عيسى» و«رمل وزبد» و«أرباب الأرض» بالإضافة إلى أعمال جبران الكاملة، و«مولع بفاجنر» لبرنارد شو، و«إعصار من الشرق أو جنكيز خان»، وحقق كتاب «المعارف» لابن قتيبة، و«إنسان العصر يتوج رمسيس»، وأعد معجم المصطلحات الثقافية. وحاز ثروت عكاشة العديد من الجوائز العالمية والمحلية، ومنها جائزة الدوله التقديرية في الفنون عام ،1978 والوسام الإيطالي عام ،1959 والقلادة العظمى لوسام اورانج ناسو الهولندي ،1961 ووسام الفنون والآداب الفرنسي بدرجة كومندور ،1964 والميدالية الفضية لليونيسكو تتويجاً لانقاذ معبدي ابوسمبل وآثار النوبة ،1968 ووسام اللجيون دونير الفرنسي بدرجة كومندور ،1968 ووسام الوشاح الاكبر الاسباني لالفونس العاشر الحكيم ،1968 والميدالية الذهبية لليونيسكو لجهود من اجل انقاذ معابد فيلة وآثار النوبة ،1970 ووسام الشرف الاكبر والنوط الذهبى النمساوي .1970 وكرمته الإمارات بجائزتي العويس عام ،2004 ،2005 وجائزة الشيخ زايد للكتاب عام .2007 |
أمام كتاب يربو على الألف صفحة، قد يحدث قارئ ما نفسه بأنه سيلجأ إلى الانتقاء، لكنه مع مذكرات ثروت عكاشة يجد ذاته مأخوذاً بأسلوب الكاتب، وموسوعيته، وصدقه في الآن ذاته، فالمذكرات تمزج بين السياسة والثقافة، كما مسيرة صاحبها الذي شكل نمطاً خاصاً، جمع بين «السيف والقلم»، ضابط ثوري أسهم في أحداث غيّرت وجه مصر، وربما المنطقة، وتسلم مناصب عدة، من بينها وزير الثقافة لأكثر من مدة في العهد الناصري، وبعد ذلك عكف على دراساته وأبحاثه الخاصة التي شكلت وعي كثيرين.
تحضر في المذكرات المترامية الصفحات شهادات كثيرة على الذات وعلى الآخر، يسرد ثروت عكاشة الذي غاب في الـ27 من الشهر الماضي ذكريات جمعته بأسماء أغلبها مشهور، وبعضها مغمور، لا يتورط قلمه في الانتقاد المسف، ولا يحاول الدخول في معارك حامية الوطيس مع أموات، على عكس أقلام تتخلى عن وقارها حينما تتصدى لكتابة سيرتها أو شهاداتها، وحتى حينما عرض الراحل لبعض «خصوماته» تحلى بدماثته المعهودة، ولم ينحدر إلى المبالغة والإسفاف.
تجارب
يتداخل العام بالخاص في مذكرات عكاشة، إذ يتسلل قلم الكاتب رغما عنه إلى مجاله الأثير (الفنون)، ففي الجزء الخاص بتنظيم الضباط الأحرار مثلا، يسرد بدايات التنظيم، وكيف اجتمع شمل أعضائه، والمنشورات التي كانت تصدر عنهم، وينفذ من ذلك الحديث التأريخي إلى قصة صاحب المذكرات مع الموسيقى الكلاسيكية تحديداً، وعشقه لحفلات «الأوبرا» وفنونها الراقية منذ صغره، ويترجم نشيداً عذباً يختتم به ذلك الفصل، لتتلاقى في الصفحات السياسة بالفن والتأريخ العام بالمشاعر الخاصة.
يستهل ثروت عكاشة «مذكراتي في السياسة والثقافة» التي صدرت الطبعة الأولى منها في عام ،1988 بتجربته مع العسكرية، إذ كان والده ضابطاً في الحرس الملكي، ويسرد كيفية دخوله الكلية الحربية، وتخرجه فيها، وانضمامه لسلاح الفرسان في الجيش المصري، وتزامن ذلك مع الحرب العالمية الثانية التي دارت بعض فصولها الختامية في مصر. تعرف عكاشة (من مواليد 1921) إلى الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في منتصف الأربعينات من القرن الماضي، وجمعتهما هموم مشتركة، أحوال مصر والجيش والملك والاحتلال وغيرها، وتزامل الاثنان في تنظيم الضباط الأحرار الذي كونه «ناصر».
تعلق ثروت عكاشة بالثقافة منذ صغره، لم يرتبط بالكتاب فحسب، بل بالفنون الراقية أيضاً «أنا من الصغر صاحب مكتبة موسيقية طبعت أذني على تذوق هذا اللون من الموسيقى الكلاسيكية والألحان العالمية.. وعلى قدر من الوعي يمكنني من الحكم والاختيار بين ما هو رائع وما هو دون ذلك. هذا إلى أن شغفي بالقراءة كان يتسع لما ينشر عن الموسيقى، فجمعت ما بين تذوقها والإحاطة بآدابها».
لم تكن نظم الجيش تسمح لعكاشة بالكتابة في الصحف والمجلات، لكنه تحايل على ذلك، فنشر بعض كتاباته في جريدة «المصري»، ووقعها باسم ثروت محمود ما بين عامي 1945 و.1952 لم يتخل عاشق الثقافة عن هواه، رغم الالتزامات العسكرية وزحمتها، انتسب إلى كلية الآداب، وحصل على دبلوم في الصحافة، وفي المرحلة نفسها انتسب إلى كلية الأركان، ونجح في نيل شهادتها، لتترقى رتبته في الجيش.
أطنب الراحل في المذكرات في الحديث عن دوره في التخطيط لثورة ،1952 وحركة الانقلاب التي قام بها الجيش، وخلع الملك فاروق. وبعد الثورة عهد إلى عكاشة بالإشراف على مجلة «التحرير» لسان حال الثورة، المعبر عن طموحاتها، واستطاع الضابط المثقف النهوض بالمجلة، ورفع نسبة توزيعها، إلى أن نشر مقالاً عن دور سلاحه (الفرسان) في الثورة، والمجهودات التي قام بها في ذلك الحدث، أثار ذلك المقال بعض النافذين في مجلس قيادة الثورة، حسب ثروت في «روايات عكاشة»، وفرضت الرقابة على المجلة، وأعلن الجيش أنها لا تعبر عنه.
استاء صاحب موسوعة «العين تسمع والأذن ترى» من القرارات الجديدة، وترك المجلة، ومزق صفحات معدة لعدد جديد منها، منذ ذلك التاريخ (يونيو 1953)، اختلفت مشارب رفاق درب الثورة، إذ صدر قرار بتعيين ثروت عكاشة ملحقاً حربياً في إحدى السفارات المصرية، ولم يرض بذلك بعض زملائه في سلاح الفرسان، حتى إن بعضهم فكر في محاولة اغتيال بعض القادة المسؤولين عن إبعاد عكاشة، لكن الأخير رفض ذلك تماماً.
مرحلة جديدة
عاقبوه فكافؤوه، هكذا كان عنوان المرحلة الجديدة من حياة ثروت عكاشة، فمن أرادوا عزله وإقصاءه عن ساحة السلطة والقرار، أسدوا إليه معروفاً، إذ وجد الرجل نفسه، في العاصمة برن في «الفردوس السويسري»، يمارس عمله الجديد، ويعود إلى تأملاته التي يهواها على وقع موسيقى يعشقها، لكن لم تستمر تلك الفترة طويلاً، فبعد أشهر عين عسكري آخر، أعلى رتبة، ملحقاً حربياً في السفارة ذاتها، لينتقل عكاشة إلى العاصمة الفرنسية باريس موطن الفن الآسر.
كعادته، يمزج عكاشة في سرد مذكراته بين العام والخاص، فحكاياته في باريس عمل سياسي، وسعي للحصول على أسرار وصفقات أسلحة جديدة، وتواصل مع الإعلام والرأي العام الفرنسي، وفي الآن ذاته يضع الرجل خريطة لمعالم باريس الثقافية والجمالية، يصحب القارئ إلى مبانيها ومتاحفها الأثرية، ويسمعه صوت أنغامها، وحكم عباقرتها وشعرائها، ويدله إلى مواطن الجمال، فعكاشة ليس مجرد وصاف، بل محلل وناقد يرشد إلى أعماق الإبداع الحقيقية وليس مجرد القشور. بعد باريس حطّ ثروت عكاشة في روما سفيراً هذه المرة، وبعدها بقليل استدعي وزيراً للثقافة (1958)، وحاول أن يعتذر، لكن عبدالناصر رفض، ليكتب عكاشة مسيرة خاصة في منصبه الجديد.
ليس من المبالغة أن يوصف ما صنعه ثروت عكاشة في ميدان الثقافة والفنون في تلك المرحلة بمصر بالنهضة الكبرى، إذ حقق الرجل مشروعات كانت أقرب إلى الأحلام، وتوالت نجاحات الرجل الذي وجد ذاته مسؤولاً عن وجدان شعب يتطلع للكثير، فعمل وزيز الثقافة على جعل الفنون والآداب حقاً للجميع، نزل بالفنون الراقية من عليائها، واجتذب إليها جمهورا كبيرا، أشرف على أوبرات وحفلات كثيرة، وأسهم في إعادة طبع أمهات الكتب التراثية والمعاجم، ووفرها بأسعار زهيدة، كما أتاح للقارئ الكثير من المسرحيات العالمية في سلاسل دورية. في مجال الفنون قدم ثروت عكاشة الكثير، فهو صاحب مشروعات عدة من بينها تأسيس أكاديمية الفنون، والمعهد العالي للموسيقى «الكونسرفتوار»، ومسرح العرائس، وفرق الفنون الشعبية، ومعهد الباليه، والسيرك القومي، كما أشرف على تأسيس دار الكتب المصرية، وكان صاحب الفضل الأكبر في إنقاذ آثار النوبة في جنوب مصر، وأنشأ العديد من المتاحف، من بينها المتحف المصري، وهو الذي اقترح إنشاء مشروعات الصوت والضوء في المناطق الأثرية، بعدما رأى تلك الفكرة مطبقة في فرنسا، ليجعل آثاراً مصرية «تنطق» بعد طول صمت وإهمال من قبل المسؤولين عنها، لتروي الأهرامات والقلعة، ومعابد الأقصر أمجادها لزوارها ليلاً، ونجحت تلك المشروعات، واجتذبت الكثيرين إليها.
يشار إلى أن عكاشة تولى وزارة الثقافة لثماني سنوات، الأربع الأولى بين 1958 و1962 والثانية من 1966 إلى .1970
وبين المرحلتين عين رئيسا لإدراة البنك الأهلي، واستطاع أن يقتني للبنك كنوزاً فنية ولوحات تقدر بالملايين حالياً.
كما حصل الراحل على درجة الدكتوراه من جامعة السوربون بفرنسا في عام ،1960 وكانت العلاقات بين مصر وفرنسا في تلك الآونة شبه مقطوعة، أخذ عكاشة الذي كان وزيراً للثقافة وقتها، إجازة لمدة شهر، وحضر مناقشة رسالته بلا أصدقاء ولا أقرباء.
في بداية عهد الرئيس السابق محمد أنور السادات، عين ثروت عكاشة مستشاراً للرئيس، إلا أنه لم يستمر فيه طويلاً، إذ تركه في عام ،1972 ولم تكن الأمور بينه وبين السادات على ما يرام، وتعرضت للعديد من المضايقات، في إطار خطة «ساداتية» كانت حريصة على التخلص من رموز الثورة، وكل ما يذكر بعبدالناصر، ممن وصفهم السادات بـ«مراكز القوى».