«الوتد».. فاطمــــــة تعلبة والمكافحات في صمت
الأم المثالية، لقب ربما كانت تستحقه بجدارة الحاجة فاطمة تعلبة، لو أنها كانت شخصية واقعية، وليست مجرد بطلة رباعية «الوتد» للراحل خيري شلبي، المبدع الذي رسم لـ«فاطمة تعلبة»، ولكل أم، صورة فريدة، إذ جعلها وتدا ضاربا بجذوره في الأرض، يحفظ ما يخشى عليه من الضياع، يجمع حوله أبناءً وأحفاداً، ويحرس عقد عائلة كبيرة من الانفراط، ويضمهم جميعا وراء باب واحد.
وكعادته، يرسم خيري شلبي عوالم «الوتد» بمقدرة حكاء من طراز خاص، يغوص هذه المرة في أعماق الريف المصري، مبرزاً دور شخصيات مهمشة، نماذج صامتة تكافح في بيئة خشنة، يسرد مسيرات سيدات منسيات ربما لم يسمعن عن ألقاب الأمهات المثاليات، ولم يطمعن في نيلها، يسطرن بطولات يومية بعفوية، ولا يبحثن سوى عن «الستر» وتربية الأبناء بما تيسر من موارد شحيحة.
حول خيري شلبي بطلة «الوتد» إلى ما يشبه الأسطورة، سيّدة أميّة تصنع دواء وتطبب مرضى، امرأة من سلالة الآمرات الناهيات، اللواتي يقدن رجالا كبارا بذكاء الفطرة، ودفء الأمومة، من نظرة عين تعرف ما يفكر فيه الابن، لكل مشكلة لديها حل، تستبق الخطر، وتنجي عائلتها الكبيرة من عواقبه.
تصنع المرأة، أماً وجدة، الأحداث في «الوتد»، هي من بيدها مصائر البطولة، قد تكون «زعيمة» مثل فاطمة تعلبة، أو حتى من فصيلة النساء العاديات اللواتي يشاركن أزواجهن هموم الحياة اليومية، ويتحايلن من أجل لقمة العيش، وتوفير طعام الأبناء، وحاجاتهم الصغيرة، مثل حذاء في زمن بائس كان يتبنى مشروع «محاربة الحفاء».
«ست الدار»
العم خيري
ودّعت الأوساط الأدبية الكاتب الروائي خيري شلبي في التاسع من سبتمبر الماضي، ويعد العم خيري، كما كان يحب، أن يلقب أحد أبرز كتاب جيل الستينات، واشتهر بغزارة نتاجه، إذ يزيد عدد الكتب التي ألفها خلال مسيرته الإبداعية على 70 كتابا، من أشهرها رواية «وكالة عطية»، التي نال عنها جائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأميركية بالقاهرة عام ،2003 وحولت الدراما التلفزيونية والسينمائية بعض أعماله إلى مسلسلات وأفلام. من أهم روايات خيري شلبي الذي ولد عام 1938: «السنيورة»، «الأوباش»، «الشطار»، «الوتد»، «العراوي»، «فرعان من الصبار»، «موال البيات والنوم»، «ثلاثية الأمالي (أولنا ولد - وثانينا الكومي - وثالثنا الورق)، «بغلة العرش»، «لحس العتب»، «منامات عم أحمد السماك»، «موت عباءة»، «بطن البقرة»، «صهاريج اللؤلؤ»، و«نعناع الجناين». وله عدد من المسرحيات منها «صياد اللولي»، «غنائية سوناتا الأول»، «المخربشين»، و«اسطاسية». |
«وتد» الرباعية هي فاطمة تعلبة، أم لسبعة رجال، ليس بينها وبين أكبرهم سن مديدة، مات الأب، وترك لها حملا ثقيلا، لكنها كانت على قدره، فكبّرت هي الصغير، ولدا وأرضا، واستطاعت أن تحرس أبناءها من الفرقة، إذ عاشوا جميعا تحت سقف واحد، رغم ما تعرضت له العائلة من أزمات ومخاطر، اشرفت على تزويج كل ابن، وساعدته في تخير الزوجة.
تحفل الحكاية بالكثير من التفاصيل، تلج إلى ما وراء الأبواب المغلقة للأبناء السبعة وزوجاتهم وهمهماتهم، تعرض أمنيات البعض أن يسمع «خبر» الأم الكبيرة والحماة، وفي المقابل إخلاص آخرين لها، وسعيهم لإرضائها في كل صغيرة وكبيرة، ولعل أبرز من يمثل ذلك اكبر الأبناء (درويش) الذي ودع الحياة، وهو يعد سرادق العزاء لأمه في نهاية الحكاية.
تتبدى خصوصية شخصية فاطمة تعلبة في معالجتها الحكيمة لأزمات العائلة، لاسيما الدقيق منها، فحينما تعلق أحد الأبناء بزوجة آخر، اكتشفت الأم ذلك بسرعة غريبة، وعملت على إصلاح الأمر بمشاركة موضع سرها الابن الأكبر، وحينما حاول ذلك «العاشق» التمرد، كان رد فاطمة تعلبة جاهزا وحاسما «اسمع يا ولد من لا يعجبه العيش مع الحاجة فاطمة تعلبة فليرحل هو، فليخرج من الباب، بطوله، وحده حتى من دون ثيابه، حتى من دون أولاده، فأنا الذي ربيت، وأنا الذي زوجت وأنا الذي أكسو وأطعم، والأولاد أولاد الدار قبل أن يكونوا أولاد أحد منكم، ولا أفرط في ظفر واحد منهم ولا حتى في ظفرك أنت أيها الشايب العايب، ولكن من أراد أن يفرط في الدار فخير للدار أن تفرط فيه.. إنه يصبح كعود جف ولا بأس من رميه بعيدا عن الحزمة الخضراء.. الدار هي دار العكايشة ولقد تعبت في الإبقاء عليها مفتوحة متكاملة ذات قوة وهيبة، ولست مستعدة للتخلي عنها على آخر الزمن، ولست أطيق أن أسمع مجنونا مثلك يقول هذا الكلام الخائب العبيط، إن قتلك أهون عندي من سماع هذا اللغو».
تلخص الفقرة كثيرا من ملامح تلك المرأة القائدة، في موقف شديد الحساسية، موقف يهدد «الكنز» الذي حافظت عليه طوال حياتها، كنز الجماعة والحياة المشتركة، واجتماع شمل العائلة الكبيرة، تنطق فاطمة تعلبة بموروث خبرة سنين، تنبه الولد الشارد إلى خطئه، تذكره بتاريخ الأسرة، وما صنعته من أجل الحفاظ على أهلها. يلفت النظر في خطاب «ست الدار» لجوؤها إلى الحديث بصيغة المذكر أحيانا (أنا الذي ربيت، أنا الذي زوجت، وليس أنا التي كالمفترض)، وكأن تلك المرأة التي لم تفقدها سنوات العمر المديدة هيبتها، تقوم بأدوار عدة، دور الأب والأم، الحارس والمربية، في آن واحد.
تحضر نساء أخريات في رواية خيري شلبي، لكن مدار العمل في «الوتد» تحديدا هي فاطمة تعلبة، الشخصية التي كساها الروائي الراحل لحماً ودماً، وصارت من بين أبرز الشخصيات التي صورها خيري شلبي في أعماله، حتى إن البعض استوحى من ذلك العمل لقباً لخيري شلبي بعد رحيله، إذ لقبه البعض بـ«وتد الرواية العربية»، تأثراً بعالم قصته المتميزة.
صورة صادقة
تجسّد الرواية عالم الريف الحقيقي، تعكس صورة صادقة له، واقعية وصادمة أحيانا، ريف تمتد مساحته الزمانية منذ ما قبل ثورة عام ،1952 إلى عصر الزعيم جمال عبدالناصر، وزمن الرئيس محمد أنور السادات، تدخل القارئ إلى سراديب الريف الحقيقي، بقلبه الأخضر، وطينه وترعه ودوره وتقاليد عائلاته.
وكما تتنقل «الوتد» بين الأزمنة، تتنقل في شخوصها على مدار أقسامها الأربعة (الوتد، المنخل الحرير، العتقي، أيام الخزنة)، قد تكون فاطمة تعلبة هي سيدة الشخصيات، وأبرزهن، لكن سيجد القارئ في العمل نماذج أخرى يتوقف عندها، متابعاً مسيرة حياتها هي الأخرى.
في الجزء المعنون بـ«المنخل الحرير» يقول الراوي «أمضي خلفها ممسكا بجلبابها هذه المرة أحاول الانتظام في إيقاع جسدها المنتفض تحت قفتين ثقيلتين، والليل مخشوشن بصفير الصراصير ونقيق الضفادع ونباح الكلاب. تدلف أمي داخلة الدار باسم الله الرحمن الرحيم: تنادي من أول العتبة في هدوء قائلة: يا عبدالشافي. فيخف أبي لاستقبالها حاملا عنها بعض حملها ليضعاه على المصطبة الكبيرة التي ننام عليها كلنا. وهنا يحلو له أن يعود فيستغرق في النوم. تجيء أمي بالطشت وتضعه فوق المصطبة وتجلس أمامه. تنتظر قليلاً. أزحف نحوها شيئا فشيئا علني أعرف فيم شرودها ذاك. أنظر في عينيها فأجد فيهما أبحراً من الحزن الغامض العميق فينقبض قلبي، يركبني الغم، أضع رأسي على فخذ أمي المتربعة محاولا الاستغراق في النوم كأبي. أشعر برعشته وسخونته فأعرف أنها لاتزال متعبة وأسمع دقات قلبها تطن في أذني. أتوقع أن ترفع فخذها لتدفعني صائحة (حل عني بقى خلي عندك دم)، لكنها لا تفعل، بل تمرر يدها على ظهري فأستنيم في لذة فائقة تخدعني، حتى لأغيب عن الوعي لفترة طويلة يحلو لي أن أطيلها بقدر.. تتسرب إلى أنفي وخياشيمي أحلى رائحة في الوجود مسكرة، لا أعرف إن كانت رائحة الدقيق الساخن أم رائحة جسد أمي المشع بالدفء والحرارة؟ أم الرائحتين معا؟ وإذ يشغلني التمييز بين الرائحتين أكون قد ذبت في نوم عميق عميق، وصرت جزءاً من موسيقى المنخل الحرير يرسم على الحائط ظلالاً من الألحان».
صورة أخرى في رباعية «الوتد» تسجلها عين الفتى الراوي، بشاعرية مستوحاة من المكان ومفرداته، في محاولة لإنطاق الصامتات، اللواتي شغلهن العمل والكفاح اليومي عن الكلمات والبوح، تعبيرات أغلبية الأمهات في الحكاية مقتضبة، فنشاطهن في ميدان آخر. فالأم في «المنخل الحرير» تفتح عينيها من الصباح الباكر على عمل، يتبعها الصبي الراوي، واصفاً ما تقوم به في رحلة «الطحين»، منذ شراء القمح، ومحاولة مساومة البائع، والحصول على بعض الحفنات الزائدة، وحتى تجهيزه بعد ذلك عبر مراحل عدة.
يشار إلى أن «الوتد» تحولت إلى عمل تلفزيوني، قامت ببطولته الفنانة المصرية هدى سلطان التي أدت دور الحاجة فاطمة تعلبة باقتدار، وحقق المسلسل نجاحا كبيرا، ونسب مشاهدة عالية عام .2000
كما أعادت دار الشروق المصرية طبع «الوتد» أخيراً.