«صهيل الطين» فلسفة صراع النـــار والماء

«عشرون عاماً أسافر في منفاي وغربتي» مهما طالت سنون البطش والحرمان وكشفت عن وجهها القبيح أمام من أخلصوا لها، واستعبدتهم بشرها، ودفنتهم في ذاكرة الماضي، وحاصرتهم في دائرة كرهها، فإن التخلص من مستبدٍ ظالمٍ، آتٍ لا محال، عشق نارها وخلدها فكانت النهاية.

ببعد فلسفي وصراع بين الماء والطين والنار، خرجت مسرحية «صهيل الطين» لفرقة مسرح الشارقة الوطني بعرض قدم أول من أمس، ضمن عروض أيام الشارقة المسرحية في قصر الثقافة بالشارقة، بنص شاعري ووحدة درامية في العرض المسرحي الذي جمع التجانس في التوظيف البصري والموسيقى المؤثرة، إضافة إلى الأداء الحركي التعبيري الراقص والسينوغرافيا المتميزة.

في «صهيل الطين»، تجسد الأمل والتفاؤل في تحقيق الحلم الذي طال انتظاره، فبعد 20 عاماً من المعاناة والعمل على احياء المنقذ المصنوع من طين، يتحقق مرادها ليكون سنداً وداعماً لها، هي ابنه الصانع الذي حرمها من طفولتها وشبابها بأن نفاها في قبو مخصص لصناعة تماثيل الطين، طوال السنين الماضية، وجردها من مشاعر العلاقة التي تربطه بها، بعد ان قتل والدتها ليس لشيء سوى انها انجبت له لوريث «أنثى»، فحلت لعنتها عليه وشلت يده اليمنى، فصار عاجزاً عن صناعة تماثيل الطين، ما جعله يستعبد ابنته ويستغل أناملها الرائعة، والتي ابهرته وهي في الخامسة من عمرها في قدرتها على تشكيل ذلك الطين، لتخلق منه كائناً بلا روح، تشكله من نار وطين، فالنار سر الخلود.

بدأ عرض المسرحية بستارة مفتوحة تكشف عن خشبة مسرح مكتظ بتماثيل وألواح وأدوات لصناعة الطين وسلاسل حديدية متدلية من سقف قبو خاص لصناعة الطين، ووسط جمود وتحجر التماثيل تخرج الممثلة حنان المهدي في دور الابنة، وتصرخ بقوة وعنفوان «سيولد»، فيما يرد عليها صوت خارجي «سيوأد» حلمها الذي لطالما انتظرت تحقيقه في ظل البطش والحرمان اللذين تعيشهما مع والدها الذي تجرد من انسانية ومن عاطفته نحوها، ليصبح صانع التماثيل العاجز الذي يحن على تماثيله أكثر من ابنته.

التمثال المنقذ

في صلب الموضوع

لم تخلُ المسرحية من الملاحظات التي تجسدت في التمثال الحلم الذي ولد من رحم ابداع امرأة، كان رائعاً على مستوى الشكل والبناء الجسدي والأداء الحركي، إذ باتت رائحة القوة والصلابة تفوح من صدره العريض وعضلاته المفتولة، إلا ان التمثال والذي جسد دوره الفنان أحمد اسماعيل، بمجرد أن نطق سقطت تلك الهيبة وهالة القوة، خصوصاً أن أداءه التمثيلي لم يكن موفقاً، وأجمع النقاد على الاكتفاء بالأداء التعبيري للتمثال.

أُخذ على المخرج اكتظاظ خشبة المسرح وازدحامها بالأجزاء الزائدة على اللازم، منها السلّم الذي نزل منه الأب للقبو وصعدت بواسطته الابنة للحرية، ووجود عدد كبير من التماثيل المتناثرة بعشوائية على الخشبة عاق في بعض الأحيان حركة الممثلين، كما أن مفردة «ارحل» التي صدحت في المكان بعد موت الأب لم يكن لها مبرر، إنما أخذت المتفرج إلى دلالات سياسية واضحة في العمل.

 تبدأ الابنة بصناعة حلمها، وهو تمثال على شكل رجل مصنوع من طين، كل يوم تصنع جزءا منه في الخفاء عن والدها الذي يؤدي دوره الفنان أحمد الجسمي، الذي لو اكتشف أمرها سيشتعل غضباً، خصوصاً أنه طلب منها تحقيق حلمه في صناعة التماثيل، بعد أن اصبح عاجزاً عن ذلك، ويوماً تلو الاخر بات شكل رجل أحلامها يتضح وملامح الرجولة التي فصلتها أناملها تبرز، فذلك الصدر العريض والعضلات المفتولة، وتلك التقاسيم الحادة والتي تكاد تنطق قوة وصلابة، لم ترها أو حتى تعرفها من قبل، كونها أمضت كل حياتها بعيدة ومعزولة عن الناس، سوى ذلك الأب المتسلط والتجبر، والذي أرادت من تمثالها ألا يشبهه في شيء.

تتصاعد الأحداث وتتكشف مكامن الصراع بين الأب وابنته، فالأخيرة هي وريثته التي طالما تمنى أن تكون ذكراً يحمل اسمه وصنعته، لاسيما بعد محاولات زواج بأكثر من 24 زوجة لانجاب الوريث، إلا أنها كانت محاولات عقيمة، لم تثمر سوى عن ابنة يريدها صانعة لأحلامه أكثر من أن تكون ابنة، أما هي فقد فاض بها وتطلب الحرية والعتق من العبودية، فطالما توسلت إليه الرحيل والخلاص، إلا أن الأذى والألم كانا من نصيبها.

حلم مكتمل

بعد أن اكتمل حلمها وصارت تراقص تمثالها وسط غضب تماثيل والدها، في أداء تعبيري راقص تصاحبه موسيقى تخدم ذلك المشهد، يبدأ صراع التماثيل التي تحاول القضاء على التمثال الحلم أو ايذاء الصانعة الشابة، التي احتمت بحلمها الذي صار يدافع عنها ويصد عنها تلك الهجمات، اما هي فصارت ترشه بالماء كي لا يجف وتزوده، بالطين كي يحافظ على قوامه.

عندها تحاول الابنة الرحيل برفقة تمثالها، لتجد نفسها في مواجهه مع والدها المستبد، الذي فوجئ بالتمثال الذي لطالما اعتبره حلمه الذي اعتقد ان ابنته تصنعه من اجله، ليجد تقاسيم مختلفة عما أراده وبناءً جسدياً ضخماً تساءل من أين عرفته، إلا ان الابنة دافعت عن حلمها الذي لا يتحرك إلا بأمرها، خصوصاً بعد محاولات ابيها الخلاص منه والقاءه في النار ليصبح مثل بقية تماثيله، على اعتبار ان النار تخلده على السمع والطاعة.

إلا أن الصراع الذي دار بين الأب وابنته، استمر طويلاً، لاسيما مع حالة التمرد والعصيان والعناد التي تجسدت عند الابنة، خصوصاً مع تجبر وتكبر ابيها الذي بعد ان أخفق في استمالة عواطفها بالتخلي عن حلمها، حاول القاءها في الفرن المخصص لحرق التماثيل، إلا أن الابنة تتمكن من الفرار لينتهي الأب في النار التي طالما اعتبرها سر الخلود.

إخراج ذكي

أجمع نقاد مسرحيون أن العمل المسرحي متكامل من ناحية النص الشعري الجيد والاخراج والسينوغرافيا التي عالجت النص بطريقة ذكية، جعلت منها بطلة العرض، كما اعتبروا ان العرض منفتح وجيد ويحمل تأويلات عدة على مستوى الرؤية والمضمون، فهناك رؤية فلسفية واضحة في صراع الماء والنار والطين. وأكدوا أن «هناك معرفة مسرحية لمخرج العمل الفنان محمد العامري، وتجلى ذلك من خلال المزج بين مدارس الاخراج، منها مدرسة الصورة التشكيلية، إضافة إلى المسرح الرمزي، كما أن السينوغرافيا المستخدمة في العرض ميزته عن غيره، من خلال استخدام شاشة العرض والأضواء المتنوعة والألوان والموسيقى».

ووصف كثيرون العرض بانه ممتع، والمخرج له أسلوبه الذي كان واضحاً على العمل، فيما النص المسرحي للمؤلف اسماعيل عبدالله كان قوياً وتجريدياً قائماً على الاستعارة ولغة شعرية أضفت عليه جمالية استثنائية، كما أثنى النقاد على اللغة العربية الفصحى السليمة التي رافقت العرض، وأشيد باستخدام أسلوبين في الأداء التمثيلي والتعبيري الراقص كان له أثر كبير في خدمة المسرحية، وإن كانت بعض المشاهد يفضل أن يكتفي فيها المخرج بالأداء التعبيري.

الأكثر مشاركة