روايته الجديدة توثّق يوميات من «الربيـــــــــــــــــــع الليبي»

إبراهيم الكوني يـــــــحتفي بـ «فرسان الأحلام القتيلة»

صورة

تحية عالية النبرة إلى من أعادوا للأحلام القتيلة روحها، يقدمها الكاتب إبراهيم الكوني في روايته الجديدة «فرسان الأحلام القتيلة» الصادرة حديثاً مع مجلة «دبي الثقافية». لم ينتظر الكوني طويلاً، ليدلي بدلوه الإبداعي في الثورات العربية، إذ سعى في «فرسان الأحلام» إلى توثيق صفحة من كتاب ثورة 17 فبراير، بعين ثائر ليبي، يشترك في الأحداث، ويستذكر ما كان قبل «الربيع الليبي»، وما حدث خلاله من بطولات، ولا يغضّ الطرف عن التداعيات التي أعقبت الثورة، وما حدث لحظة تقسيم الغنائم من قبل البعض.

أنشودة تمجد الحرية، وما يبذل في سبيلها، تبدو «فرسان الأحلام القتيلة»، تتراجع الحكاية والحدث والتكنيك الفني، في الرواية، وينطلق السارد (الثائر) هائماً في ملكوته الخاص، متحدثاً عن رحلة اغترابه الطويلة، وأحلامه الموؤدة، هو وكثيرون، في وطن بات «سجناً بأيقونة خضراء»، يقوده زعيم يرى شعبه جرذاناَ. ويعترف الراوي بأنه بالفعل كان، ومازال، فأراً، فالنظام العبثي حوله إلى فأر مثقف، لا يتحقق له وجود إلا بقرض الكتب، ولا يجد نفسه إلا بين صفحاتها، وخلال أحداث الثورة صار السارد فأراً من نوع جديد يقرض الجدران، لكن هذه المرة في سبيل الحرية، وليس من أجل العزلة أو الاغتراب.

إلى سالم جحا

عالم ممتد

ولد إبراهيم الكوني في غدامس بجنوب ليبيا، عام .1948 حصل على الليسانس، ثم الماجستير في العلوم الأدبيّة والنقدية من معهد غوركي للأدب بموسكو. يجيد، حسب ما ورد في ترجمته في موسوعة ويكيبيديا، تسع لغات، وكتب أكثر من 60 كتاباً.

يعتمد عالمه الروائي على عدد من العناصر المحدودة، على عالم الصحراء بما فيه من ندرة وامتداد وقسوة وانفتاح على جوهر الكون والوجود. وتدور معظم روايات الكوني على جوهر العلاقة التي تربط الإنسان بالطبيعة الصحراوية وموجوداتها وعالمها المحكوم بالحتميةّ.

يعيش الكوني في أوروبا منذ نحو 40 عاماً، بدأ نشر أعماله في مطلع السبعينات من القرن الماضي، ومن رواياته «التبر»، و«نزيف الحجر»، و«رباعية الخسوف»، و«المجوس»، و«عشب الليل»، و«نداء ما كان بعيداً». وحاز إبراهيم الكوني عدداً من الجوائز العالمية والعربية، ونال جائزة الشيخ زايد للكتاب.

تمتزج في رواية «فرسان الأحلام القتيلة» الحقيقة بالخيال، إذ تستند إلى كثير من الوقائع، والأسماء الحقيقية، حتى إن الرواية مهداة إلى أحد رموز ثورة 17 فبراير: «إلى سالم جحا.. الفارس الذي اختزل في شخصه (رمزاً) فرسان الجبل الذين بعثوا من عدمٍ أحلام الجيل القتيلة». وسالم جحا هو العقيد في الجيش الليبي الذي انضم مبكراً إلى الثورة، ووقف مع أبناء شعبه ضد نظام العقيد الراحل وكتائبه ومرتزقته.

وكما يحضر جحا في الإهداء، يحضر كذلك في صفحات الرواية، وبعض أحداثها. وهناك أيضاً «بوعزيزي ليبيا» البطل زيو الذي اقتحم بوابة أحد معسكرات النظام، وكتب صفحة خاصة في كتاب الثورة الليبية: «لم نكن سوى جثامين تدب على قدمين. جثث على قيد الحياة، تماماً كما فعل زيو الذي حمل جثمانه على ظهره، وفجر به بوابة المعسكر الحديدية ليستعيد حياته الضائعة في العدم، يتنازل عن حياة مزيفة لينال بهذا العمل الحياة الحقيقية في الأبد. دفع حياة مزيفة مقابل حياة الحلم. دفع حياة البهيمة لا طمعاً في أن يحيا، ولكن لكي يحيي. وعندما أحيا فقط استرد الحياة المفقودة. فلماذا لا نحذو حذوه كما فعل البوعزيزي قبله؟ لماذا لا نتخلى عن موت يبدو حياة، وننحاز إلى حياة تبدو موتاً، كما فعل بوعزيزي الغرب، وكما فعل زيو الشرق؟ ألم يجسّد كل منهما سيرة التضحية المثيلة لتضحية المسيح في سبيل الحقيقة؟ هل أبالغ إذا قلت بصوت عالٍ إنهما مسيح هذا الزمان؟ فبدم هذين بدأ الفنح الحقيقي، بدأ الفتح المبين».

ترهات تاريخية

على عكس المتوقع، لم تشغل الرواية نفسها كثيراً بسيرة العقيد الراحل معمر القذافي، اكتفت بالتعريج على التجريف الذي صبغ به الحياة هناك، إنساناً ومكاناً، والذي بلغ ذروته خلال فصل الزعيم الأخير، إذ كان بطل الرواية شاهداً، رأى، من مخبئه، كيفية تعامل مرتزقة القذافي وجنوده وقناصته، خصوصاً مع النساء، بالاغتصاب والتعذيب والقتل، وهو ما جعل كثيرين من الثوار يعتبرون معركتهم الأخيرة مع ذلك النظام معركة عرض وشرف. كما عرضت الرواية في استهلالها بعض صور التسطيح المتعمدة للعقول من قبل نظام العقيد، فالراوي حينما عيّن معلما لمادة التاريخ، فوجئ بالترهات المسطرة في الكتب، التي ينبغي عليه تدريسها للطلبة، وحينما اعترض كان مصيره الإقصاء من المهنة، والدخول في سين وجيم طويل في غير مؤسسة أمنية، فاضطر للعودة إلى العزلة بين كتبه، إلى أن جاء الخلاص يوم 17 فبراير ،2011 موعد انطلاق الربيع الليبي.

يتجلى في «فرسان الأحلام القتيلة» الكثير من المفارقات، غير أنها أتت متأخرة في صفحات ما قبل الختام، إذ تبرز من جديد حكاية مشابهة لما حدث بين قابيل وهابيل، فالراوي وأخوه يتلاقيان وجهاً لوجه، هذا في صف الثوار، وذاك في كتائب نظام القذافي، لا يضيع الأخير وقتاً، ويطلق النار على الراوي، محدثاً له عاهة كبيرة، وإصابة جعلته يعيش حياته بساق صناعية. في المقابل، يجهز أحد الثوار على شقيق الراوي، بقذيفة تمزق جسده. والمفارقة تتجلى في علاقة الحب التي كان يكنها الراوي لأخيه الأكبر (ميسور)، إذ كان يعتبره من نعم الدهر عليه، واعتقد أنه انشق على النظام، أو حتى مات منذ بداية الثورة، ولم يتوقع أن يلقاه في ميدان كهذا، يحاول أن ينهي حياته.

صراع آخر

قبل النهايات أيضاً لا تصفو الرواية مما ينغص لذة النصر، وتحرير المدينة (مصراتة)، إذ تلوح في الأفق صراعات تهدد «الأحلام» من جديد، في «سبيل الفوز بالغنيمة»، في إشارة إلى الخلافات التي نشبت بين رفقاء ثورة الأمس، ورغبة البعض في لقية دنيوية «وها هي فئة أخرى تنضم إلى فرقة مريدي الغنيمة متمثلة في عشاق جنية حقيقية اسمها العروش، ولا يدري هؤلاء البلهاء أنها المعشوقة الوحيدة التي لا تترك عشاقها إلا أمواتاً، كأن مصرع مريدها الأخير الذي كانوا له شهود عيان بالأمس القريب لم يكن في يقينهم درساً كفيلاً ببعث الحياة في أرواحهم الظامئة».

تلك المحطة من الصراع بين الثوار، أصابت الراوي بالقلق، هددته من جديد، جعلته على شفير اغتراب الأمس، لكنه قاوم ذلك بدواء ناجع، إذ ذهب في رحلة خاصة، ليزور «بلاط الشهداء» شهداء الثورة، ويطيل الوقوف على مرقد صديقه نفيس، الشهيد الذي افتدى الراوي بروحه، إذ ألقى جسده عليه، ليحميه من إحدى القذائف، ويسبقه إلى الشهادة.

يضرب صاحب «التبر» و«المجوس» في عمق تاريخ المكان، يصحب قارئ «فرسان الأحلام القتيلة» في رحلة ليعرفه، هذه المرة بعراقة مصراتة، تاريخها البعيد والحديث، ملامحها، ومن أين أتى الاسم، وكذلك لقبها المعروف «ذات الرمال»، ويتخذ من تحصن قناصة القذافي في إحدى البنايات سبيلاً للتعريف بتاريخ تلك البناية، وكذلك الكثير من معالم المدينة وبحرها الممتد مثل «صحراء من ماء».

تويتر