«وادٍ في القلب».. الحياة ليست «رواية نظيفة»
للكاتبة لطيفة الحاج مع شجون القلب حكايا طويلة، تبرز حتى في تخيّرها لعناوين أعمالها، إذ تفرض تلك الكلمة السحرية نفسها على مفاتيح إبداعاتها، شعراً وسرداً، نصوصاً وقصصاً قصيرة، وأخيراً رواية بعنوان «وادٍ في القلب».
يستوقف قارئ الرواية، بداية، الإهداء: «إلى كل قلب يشبه قلبها.. مها»، وتلك الـ«مها» ليست من خارج حيز الرواية، بل هي ساردة الحكاية، وصاحبة الصوت الوحيد المغرد فيها، ذات القلب الأخضر الفسيح بوديانه وسهوله، تروي أحلامها الصغيرة والكبيرة، وذكرياتها عمن زاروا القلب، وعبروه سريعاً، وانتهى بهم المقام إلى الاستقرار بوادٍ سحيق فيه، إلى أن أتى شريك العمر، ليعمر ذلك القلب، ويهندسه من جديد.
يشي ذلك الإهداء بأن المبدعة لطيفة الحاج تعلن منذ البداية انحيازها لبطلة روايتها، وارتباطها بها، وتعاطفها كذلك مع كل أصحاب - أو بالأحرى ــ صاحبات، القلوب، الذين يشبهون نمط شابة تحلم بأن تكون الحياة «رواية نظيفة».
اشتغلت صاحبة «قلبي نصف قمر مضيء» على الشخصية الرئيسة في «واد في القلب» طويلاً، منحتها المساحة الكاملة، لتبوح، وتصدر أحكاماً مطلقة على الآخر، من دون أن تعطي له فرصة واحدة للدفاع عن نفسه، وتبرير «الانسحاب» من عالم الرواية، حتى ولو تم ذلك فإنه يكون سريعاً، بشكل غير مبرر. بدا ذلك جلياً في تجربة «مها» مع «رابح»، ذلك الشخص الذي شغل حيزاً من صفحات الرواية وقلب وعقل بطلتها، وكانت محطته النهائية في الرحلة، ذلك الوادي البعيد من قلب «مها»، ولكن بعد مجاهدات طويلة.
بلا «خطيئة»
بطاقة -- لطيفة الحاج من مواليد مدينة العين. -- خريجة جامعة الإمارات، بكالوريوس هندسة مدنية وماجستير إدارة هندسية. -- كتبت في عدد من الجرائد والمجلات. -- من إصداراتها: «قلبي نصف قمر مضيء» شعر ونصوص، «أحلام زرقاء» نصوص، «هداك الله إلى قلب لا يشبه قلبي» مجموعة قصصية، «الغيمة رقم 9» أقاصيص، «فارس بحصان رمادي»، مقالات عامية ساخرة.
|
حرية الروائي مطلقة في أن يتخير عوالم شخصياته، وملامحهم الخارجية والداخلية، وعلى الطرف الآخر، من حق القارئ أن يقتنـع بتلك الشخـصيات فيتعاطـف معها، أو يرى أنها كائنات ورقية هشة غـير جديرة بالتـعاطف؛ إذ هي من اصطنعت أزماتها، وبـرّرت لنفسها التعاطي الطويل مع الألم، دونما رغبة في الخلاص.
وربما يجد متلقي «وادٍ في القلب»، الصادرة عن الدار العربية للعلوم (ناشرون) في 147 صفحة، نفسه قريباً مرة من بطلتها، وأخرى بعيدا عنها، يتماس معها حينما يجدها تعكس أحوال نماذج عديدة من حوله: أناس حساسون بدرجة مفرطة، يبوحون إلى الداخل لا إلى الخارج، يثقون بالبشر ويتعلقون بهم بسرعة، ويدفعون أثمان ذلك غالية في ما بعد، لأنهم غير صالحين تماماً للتعامل مع أطياف مختلفة من البشر، يرون الحياة بمناظير مغايرة، ويتبنون قيماً نفعية، على غير نمط «مها» في الرواية، والتي بدت ــ في الغالب ــ أنها بلا «خطيئة» صغيرة ولا كبيرة، وأن الخطأ دائماً مصدره الغير (رابح، وغيره ممن زاروا قلب مها، وتمنّتهم بينها وبين نفسها: أمير، عمر، محمود ناصر، جابر، صلاح): «لا عجب في أنه لم يجد في ما يحب، أنا الملتزمة، الخجولة، التي أكره الروايات الجريئة، وأحرص في قصصي على كتابة الأدب النظيف الخالي من التلميحات والإيحاءات، أنا التي رفضت أن أتعرّف عليه قبل أن تربطنا علاقة رسمية، رفضت اقتراح منى ورأيها في شباب اليوم الذين باتوا أكثر انفتاحاً، وأنني ورابح ناضجان، وبإمكاننا التحاور عقلياً، والتعرف على بعضنا قبل أن ننتقل للرسميات. رفضت الأمر بلا تفكير؛ كوني صاحبة مبادئ..».
فأزمة «مها» في عالمها الحالم، وإرادتها الباطنية في أن تصير حياتها، وربما الحياة كلها، كما «رواية نظيفة»، ولذا كانت مساحة الألم أشد وطأة، حينما تعرضت لتجربة رأتها غريبة مع «رابح»، إذ بنت أمنيات لليالٍ طويلة، بينها وبين نفسها الرقيقة، بينما كان الواقع غير ذلك.
علامات استفهام
جردة حساب لنهاية عام، وعلامات استفهام كثيرة، وحوار طويل مع الذات، وملابس رمادية، وأمنيات مخبّأة.. ملامح عامة، تبرز حال ساردة الحكاية في «وادٍ في القلب»، إذ تلقي «مها» مبكراً، ومنذ المشاهد الأولى، بهمومها التي يثيرها تاريخ جديد، وعام ينطوي من العمر، بلا مكاسب وجدانية حقيقية.
فالشابة بالمقاييس العملية تحقق نجاحات، تعمل في شركة كبيرة، وتكتب بانتظام عموداً في جريدة «الوجد»، ولها قراء يتابعونها، ويتواصلون معها عبر البريد الإلكتروني، لكن في المقابل، هناك حزن غائر مقيم بالقلب.
وتلخص البطلة حالها في تلك الآونة وتقول: «حياتي الاجتماعية باردة، أقضي الساعات في غرفتي، كأن البرد والجاذبية يعملان في الاتجاه نفسه، يجذبانني إلى داخل الغرفة نحو السرير. من على السرير أجري المكالمات وأرسل الرسائل، ومن على السرير أكتب وأقرأ، وأحياناً كثيرة أتناول طعامي. قلما أجلس مع أمي المشغولة بنشاطاتها الاجتماعية وزوجة أخي التي تسليها وتشاركها تلك النشاطات، ثم إنني أعرف أن أمي غسلت يدها مني منذ زمن، وسلمت لفكرة أن مكاني الأنسب هو غرفتي خلف شاشة الكمبيوتر وبين الكتب، هي لا تأبه بما يشغل عقلي، ربما كانت تأبه لكنها لم تعد تسألني، لا أحد يسألني عما يشغلني، سأشعر بالغرابة لو فعلت هي الآن، لو فعل أبي أو غالية أو منى، لكنني سأسعد لو أبدى أحدهم اهتماماً بما أفكر فيه، وأبدى فضولاً لمعرفة ما أخفيه عنهم ولا أتشارك معه حتى مع غالية أقرب الناس إلي. أعزل نفسي عن الناس بعد العمل، لا صديقات أتواصل معهن باستثناء غالية ومنى، أشتاق لصديقات الدراسة، لكن لا رغبة لي بالحديث إليهن، ومعرفة ما آلت إليه حياة كل واحدة منهن. لا أذكر متى فقدت تلك الرغبة وأصبحت أكثر الناس عزلة، ربما هو الصمت ما يحدني إلى ذلك..».
ارتباط
رغم تلك الحالة التشاؤمية، لم يبخل العام الجديد، عن حمل ما بدا حينها هدية إلى مها، تعوّضها عما فات، وتعدها بحياة هانئة، إذ أخبرتها صديقتها الأقرب (والوحيدة أيضاً) منى، بأنه يوجد شخص (رابح) يريد أن يتعرف إليها، بعد أن حدثته عنها، ورشحتها له للارتباط، لم تهتم مها في البداية بحديث الصديقة، ولكن بعد حين صار رابح محور حياتها، وحلماً يراودها يقظة ومناماً. تأخر لقاء التعارف، وما ان تم حتى انسحب رابح، بلا مبررات تجبر خاطر من انتظرته طويلاً، وكذلك صديقتها (الواسطة منى). بدت مها متماسكة من الخارج، لكنها من الداخل كانت بخلاف ذلك: «لطالما أتعبني ارتباطي العاطفي بالمحيطين بي، يصبحون جزءاً من حياتي، أراهم دائماً ملائكة لا يخطئون وإن أخطأوا فالخطأ مؤكد أمر غير مقصود. غريبة أنا في تعلقي بالأشخاص، في ربط حياتي بهم، في إشراكهم أفكاري ودعواتي وأمنياتي، وفي قدرتي على الصفح والتسامح، لهذا هي غاضبة منه، ولهذا هي قلقة علي غالية. منى غاضبة أيضا لأنني تعاملت مع الموقف ببرود، قالت: تدهشني ردة فعلك، لو كنت مكانك كنت غضبت، حزنت، ثرت، وكرهته، كرهت كل الرجال. لمَ أغضب يا منى؟ فيم سيفيدني الغضب؟ ولمَ الحزن؟ كيف أحزن على فقدان شيء لم يكن لي من الأساس؟ أظن يجب أن أحمد الله وأشكر رابح، فقد كانت أياماً جميلة مليئة بالأحلام والسعادة والضحكات».
لم تبرأ مها من جرحها سريعاً، كما عادة هكذا أشخاص، ظلت زمناً تداوي نفسها، وتبحث عن سلوى، وتصب غضبها على رابح الذي لم يعطِ ولو فرصة واحدة للدفاع عن نفسه، والاعتراف بما جعله ينفض يديه من قصة بلقاء يتيم. لم تخلُ الرواية من نهاية سعيدة، رغم محطات التعاسة ــ من وجهة نظر البطلة على الأقل ــ إذ تصادف مها من تستحقه، ويكون اللقاء هذه المرة بلا وساطة من أحد، وتتردد مها في فتح قلبها لذلك الشخص (أحمد)، لكن إصراره وحبه الحقيقي يغير مسار الحكاية. ويبدو أحمد في صورة الشاب «الملتزم» الناجح عملياً، والذي يتذوق الكلمة، ويحرص على متابعة كتابات مها، وقبل كل هذا هو الذي أشعر مها باكتمالها، وربما هو أول من يطلع القارئ على اسم البطلة كاملاً (مها حمدان)، وتكون النهاية زواجاً من أحمد، وخلاصاً من مشاعر قديمة، وتحول القلب إلى واحة سهل فسيح، لا شيء يتوارى فيه، ولو في نقطة عميقة بوادٍ سحيق.