«مراد».. البحـث عن لقمة العيش المر

ومراد ليس سوى واحد من آلاف الباحثين عن لقمة عيش مغموسة بالمرار، وشاب فلسطيني يخوض رحلة يومية محفوفة بالمخاطر، للوصول إلى أمكنة كانت جزءاً من وطنه، لاقتناص فرصة عمل لدى العدو، غير عابئ بخطباء ومنظّرين متخمين بالبلاغة، يطالبون مراد وأمثاله عن بعد، بمواجهة المحتل والجوع والجدار العازل وحدهم.

سعاد العامـري

كاتبة ومهندسة معمارية تسكن مع زوجها سليم تمارى في رام الله بفلسطين. هاجر والداها من القدس عام ،1948 لتستقر العائلة في عمان، حيث نشأت سعاد بين عمان ودمشق وبيروت.

درست الهندسة المعمارية في الجامعة الأميركية في بيروت، وجامعة آن أربر ميتشيغن، ونالت شهادة الدكتوراه من جامعة أدنبرة في اسكتلندا.

وسعاد العامري هي مؤسسة ومديرة مركز رواق الذي يعمل على حماية وإعادة إحياء المراكز التاريخية في فلسطين. ترجم كتابها «شارون وحماتي» إلى لغات عدة، وكان من الأكثر مبيعاً في عدد من الدول. وحاز جائزة «فياريجيو» الإيطالية عام .2004 ولها كتاب بعنوان «فلسطين في سن اليأس» ترجم أيضاً للغات عدة.

ولها أيضاً مؤلفات عدة عن العمارة في فلسطين وغيرها، منها: «نباتات الأردن» (1982)، و«البلاط التنفيذي في فلسطين» (2000)، و«زلزال في نيسان» (2002)، و«مناطير قصور المزارع في فلسطين»، (2003)، و«عمارة قرى الكراسي» (2003).

ملامح من حكاية مراد وغيره، روتها المهندسة الفلسطينية سعاد العامري في كتابها «مراد مراد.. لا شيء تخسره سوى حياتك»، والذي يعد نتاج تجربة حقيقية مرت بها المؤلفة، قبل أن تشرع في الكتابة، إذ خاضت رحلة بمحطات خطرة، على مدار 18 ساعة، برفقة مراد ورفقائه، وعادت مشحونة بالأسى والمشاهد والقصص، لتسطر جزءاً من الحكاية، في كتابها الذي صدر بالإنجليزية، وترجمته الى العربية سحر توفيق، وصدر عن دار بلومزبري ـ مؤسسة قطر للنشر في 216 صفحة.

وجوه

تركز صاحبة كتاب «شارون وحماتي» على الوجوه، على الناس وآلامهم، تفتح عينها لأقصى مدى لتسجيل ملامح العمال الذين صادفتهم خلال رحلتها الواقعية، تتفرس وجوههم، وتسجل ما يجري بينهم من حوارات قد تبدو في ظاهرها عابرة وعادية، وتبتعد عن الانتقائية، وكذلك عن الأحكام، فهي تتعامل مع بشر، أناس يبحثون عن لقمة عيش، وراءهم أفواه جائعة تنتظر الزوادة، كما يوجد أشخاص مختلفون لهم مآرب أخرى من وراء الرحـلة.

ورغم ذلك لا تنسى الكاتبة سعاد العامري، في الآن ذاته، الاستماع لمعاناة الأرض ومعالمها وأشجار زيتونها، إذ ترتحل زمانياً ومكانياً، وتغيب في أحلام يقظتها وتداعياتها، تسافر الى ما قبل النكبة، تسرد مناظر قديمة لمعالم من الوطن، وتقارن الحال القديمة بالجديدة، قرى صارت مستوطنات، وفضاءات كانت تحمل أسماء عربية، باتت بلافتات عبرية. ولا تغيب عن عين المهندسة الفلسطينية أن تنفذ الى معالم التشوه المعماري الذي حل بالمكان بعد ناسه الأصليين، وتظل طويلاً تحلل مظاهر ذلك التشوه.

وتقف سعاد العامري طويلاً أمام الجدار العازل الذي حوّل فلسطين الى سجن مفتوح في العالم، على حد تعبير فنان الغرافيتي الإيطالي بانكسي، وتتأمل بعض الرسوم على الجدار: «شاهدت فتاة صغيرة تفتش جندياً اسرائيلياً. وجهه الى جدار يرتفع ثمانية أمتار، ويداه مرتفعتان مستسلماً، وبندقيته على الأرض بجوارهما. وفيما كانت الصغيرة تفتش الجزء الأدنى من بنطاله، نظرت اليّ وابتسمت. قالت لي ابتسامتها أن لا أيأس أبداً. رأيت فتاة صغيرة تطير فوق الجدار. كانت ترتدي تنورة قصيرة مزركشة، بينما كانت ضفيرتها تتطاير في الهواء. أمسكت في إحدى يديها بثمانية بالونات مدورة، وباليد الأخرى كانت تمسك بالرجل الأعرج، وعلى الرغم من صغرها الا أنها كانت تحمله بلا أي مجهود، عبر ذلك الجدار. وقفت هناك وصفقت بحماس لفتاة البالونات.. رأيت سلماً من الحبال يصل الى قمة الجدار، وثمة ولد صغير آخر يجلس تحت السلم الأشبه بالثعبان يمد يده الصغيرة الى مئات من العمال. وعلى غرار موسم الزيتون، راحوا يصعدون خطوة خطوة على سلّم الحبال المرسوم حتى وصلوا أعلى قمة الجدار. شاهدت أجسامهم تتلوى وهم ينزلون عند الجانب الآخر من الجدار. رأيت جواداً بلون بني فاتح يمد رأسه خارج نافذة مؤطرة صغيرة مفتوحة في الجزء الأعلى من الجدار الاسمنتي. كان يصدر التعليمات المتعلقة بالأوقات الآمنة لتسلق الجدار، بينما كان جسده يختفي وراءه».

لم يأتِ حديث الجدار عرضاً في سياق حكاية مراد وأترابه من العمال الفلسطينيين، إذ كان عليهم عبور ذلك الجدار، ومواجهة رصاصات حراس الجدار، وأسلاكه المكهربة، بأي شكل من الأشكال، ومهما كان عدد الضحايا، فالجدار يمثل محطة محورية مهمة في رحلة الخطر هذه، وعبوره الآمن يقرب من أمل صيد لقمة عيش، تتطلب بذل الكثير من أجلها.

مناوشة

يحفل كتاب «مراد مراد» بالتفاصيل العادية، ومناوشة الحياة بسخرية، بعيداً عن الجو الدرامي، وإضفاء مزيد من التراجيديا على مأساة عميقة، إذ تركز الكاتبة مثلاً على وصفة أكلة المقلوبة، وكيف تعدها أم مراد للعائلة. وتحاول المؤلفة منذ البداية ان تضع أمر الرحلة كلها في سياق لعبة تقوم بها سيدة تخطت منتصف العمر، وكما كانت سعاد الصبية تلعب وسط أولاد الحارة، وتحاول التأقلم مع مناخ معظم صغاره ينتمون الى العالم الذكوري، فسعاد الكبيرة أيضاً ستقوم بشيء مشابه، هذه المرة في عالم مختلف، إذ سترافق عمالاً.

تنشد الكاتبة منذ الصفحات الأولى، ولو مظهرياً، ان تتحول الى واحد من العمال، إذ لبست ثياباً تخص زوجها، ضاغطة ملامح الأنوثة، ومخفية إياها بصور مختلفة. ورغم سعي سعاد العامري الحثيث للتركيز على المشاهد العادية، والابتعاد قدر الإمكان عن البكائيات المعهودة، إلا أن المأساة القديمة الجديدة تخترق قشرة الحكاية، وتفرض نفسها، فالجرح أقسى من كلمات التصبر، لتحضر صور التغريبة الفلسطينية، وتبرز في الدروب صورة الجد المنسي لحظة التهجير القسري، وبيت العائلة القديم في يافا، وغيرها من المشاهد.

تقول سعاد العامري في مقدمة كتابها: «نعم لفلسطين وجوه وأسماء. وهذا هو الخطأ الكبير الذي ارتكبناه نحن الفلسطينيين والعرب، على حد سواء، حيث جعلنا من فلسطين وشعبها رمزاً للبؤس والأسى والموت، وكأنه شعب يريد الموت، بدلاً من أن نروي الحقيقة لشعب أحب ويحب الحياة. وما الاحتلال الإسرائيلي سوى منع شعب بأسره من ممارسة حياة طبيعية؛ حياة حب وغرام وعمل، بل أناس عاديون كغيرهم؛ كل ما يتمنونه هو الحياة العادية الطبيعية. وهذا ما أردت أن أكتب عنه».

تبدأ رحلة سعاد مع العمال «صيادي الرزق»، مساءً، وتستمر لنحو ثماني عشرة ساعة، إذ غادرت بيتها في العاشرة مساء، ومرت بمحطات كثيرة، تفصلها في «مراد مراد» الذي وضع الى حد ما في حسبانه القارئ الغربي، وحاول أن يخاطبه أحياناً بشكل عقلي وعاطفي، لعله يجد صدى لديه لمعاناة شعب كامل، قد تكون رحلة العمال فصلاً صغيراً من فصولها شديدة الكآبة.

الأكثر مشاركة