انتخـابي فـرد تروي يوميات ما قبل الهروب.. وشهادتها عن «الثورة»
«كامـــليا».. حكاية إيرانية مع القمع
إلى دروب كثيرة، تتفرّع سيرة الكاتبة الإيرانية كامليا انتخابي فرد، عابرة دائرة الذات الى مساحة أرحب، لتمزج السيرة بين محطات صاحبتها الحياتية، وشهادتها على عصر حافل بالثوار، والملالي، والمنفيين العائدين الى الوطن، والباحثين عن منفذ للهروب منه، وبين هؤلاء وهؤلاء فريق ثالث آثر البقاء، حالماً بحرية تتباعد كل حين.
أحداث بالجملة تتوالى في سيرة «كامليا» الصادرة عن دار الساقي في 302 صفحة، أحداث ربما تعد كثيرة، بالمقارنة مع عمر الكاتبة التي ولدت في سبعينات القرن الماضي، ووجدت نفسها متورطة في غمار عاصفة، ولعبة استخبارات كبيرة.
لم تفهم ابنة السادسة كامليا، حينما كانت تغلي إيران عام 1979 ما الثورة، كل ما أحزنها وقتما وقعت الواقعة أن تحظى بهدية عيد ميلادها الذي وافق ذلك التوقيت، ولما ألحت على أمها لتشتري لها دمية، فوجئت بأن المحال مغلقة، والاضطرابات تعم الشوارع، وأناسا يرددون أن الشاة قد هرب، والخميني عاد من منفاه الفرنسي.
لم تكن دمية الميلاد، الحرمان الأول والأخير الذي نالته كامليا من الثورة، اذ تصاعدت «الحرمانات» بعد ذلك، لتصل إلى قمع أسود اللون، يطارد خصلة شعر نافرة من تحت غطاء الرأس، أو جوربا زاهيا ترتديه الفتاة المراهقة، أو يسخر من اسم الطالبة كامليا، ويحاول أن يحرمها منه، ولم تتوقف الأمور عند ذلك، إذ طوردت الكاتبة، وسجنت لفترة، ولم ينقذها من محنتها سوى يديها اللتين عشقهما من كان مكلفاً بالتحقيق معها، وكذلك إقرارها بالاتهامات الموجهة اليها (الجاسوسية وعريضة طويلة من الخيانات)، وقبولها التعاون مع الاستخبارات، وكتابة تقارير عمن يشاؤون، وفي النهاية كان الحرمان الأعظم الذي واجهته كامليا، إذ لم تجد لها سبيلاً سوى الفرار من الوطن في عام ،2000 والعيش في المنفى، وتوديع بلادها، بعد يوميات قاسية تفصلها في سـيرتها.
مناخ الخوف
إلى من بقوا يستوقف القارئ في «كامليا.. سيرة إيرانية» التي ترجمها أسامة منزلجي، الإهداء «الى ذكرى والدي. الى أمي الشجاعة والاستثنائية. الى كل الذين بقوا في إيران». وتفسر صفحات الكتاب بعد ذلك سر ذلك الإهداء، بعيداً عن مجرد العاطفة الأسرية، فرجل جهاز الاستخبارات حينما كان يهدد كامليا، كان يلوح لها بعائلتها ويده التي تستطيع أن تطالهم، ورغم ذلك شجعت الأم ابنتها على الفرار، والنجاة من شرك ذلك المخابراتي. أما حكاية الأب المتوفى فمختلفة، إذ اختار البقاء في بلده بعد الثورة، رغم أنه كان من عائلة محسوبة على نظام الشاه. تحمّل الكثير، وزرع في نفوس أبنائه قيماً ومبادئ وحب العلم. أما الإهداء «الى كل الذين بقوا في إيران» فلا يحتاج الى تفسير، خصوصاً أن مجرد العيش بنمط ومعتقدات مختلفة في فضاء كهذا، محاولة محفوفة بالخطر اليومي. |
تلح الصحافية والكاتبة الإيرانية على تصوير مناخ الخوف الذي عاشته، هي وكثيرون، فالبصاصون منتشرون في كل مكان، يسعون للتفتيش على الملابس، والضمائر أيضاً، والعيون التي تراقب بلا حصر، تقتحم البيوت، وتتنصت علّها تستمع صوت حفل صاخب مختلط، ليكون أفراده غنيمة لسلطة دولة القهر، ويدها القادرة على الوصول الى «المنحرفين» عن المبادئ التي أرستها الثورة، إذ أراد المسؤولون عن الأمن حينها معرفة كل شيء عن الجميع، ورصد خطوات من يستشعرون بأنهم مغايرون: «كانوا شديدي الاهتمام بما وقع في منزل فائزة هاشمي (رافسنجاني). لقد سمعوا شائعات عن علاقاتها مع رجل ما وأرادوا أن يعرفوا التفاصيل كلها: كم عشيقاً لها، ومدى جدية تلك العلاقات. أرادوا هل تصلي أم لا، هل تضاجع زوجها السيد لاهوتي ليلاً أم لا؟ هل يناهضان حكم الأئمة أم يعارضان آية الله الخميني؟ رفضت أن أعطي جوابا طوال أيام، ولكن بعد ذلك بدأت أخبرهم بكل ما أرادوا أن يعرفوا، وكل شيء آخر، بدءاً بالأسرار التي ظننت أني لن أبوح بها لأحد وانتهاء بأكاذيب فاضحة تتناسب مع أسئلتهم الفاضحة».
ورغم ذلك الجو الذي يرعش الأصابع، تتمسك كامليا بالطابع الفني في عرض سيرتها، تغلفها بشاعرية خاصة، تبرز الألم، وتجسّد يوميات القهر والاعتقال، تصور انطلاقة طفلة كانت كما الفراشات، والواقع الذي اصطدمت به بعد ذلك، تروي حكايتها مع حافظ الشيرازي، وأول قصيدة حب خطها قلمها، ودفترها الخاص الممتلئ بكلمات رقيقة، الى أحبة مجهولين، وعملها مراسلة وهي صبية في مجلة، وغيرها من المحطات التي تحضر فيها قصائد شديدة العذوبة.
في المقابل، تبدو أبرز نقاط ضعف السيرة، اتجاه كامليا، ابنة المجتمع المخملي قبل الثورة، بشكل شبه كامل الى الحديث عمن ينتمون الى طبقتها، والظلم الذي وقع عليهم، والإعدامات التي تعرضوا لها، وانصرافها إلى سكة بعينها: رثاء الحريات، وحقوق طبقة كانت مصونة أيام حكم الشاه. فكامليا التي نشأت في بيت كان ينعم أفراده بقضاء العطلات في أوروبا، وشراء لوازمهم من أشهر المتاجر، تبدو مهمومة بأحوال أناس بعينهم، غافلة عن ملايين من العامة، كان بينهم من نال حظه ونصيبه من ذلك القهر.
تمتلئ سيرة كامليا بتفاصيل مشوقة، تروي يوميات تبدأ منذ الثورة، وتحضر فيها وجوه كثيرة، بعضها أسماء شهيرة، من بينها الخميني والشاه وفرح بهلوي ورضا بهلوي وعلي دائي وهاشمي رافسنجاني وابنته فائزة ومحمد خاتمي وجورج سورس، وغيرهم، وكل هؤلاء كان لصاحبة السيرة حكايات ولقاءات معهم، ولم ترد أسماؤهم في السيرة عرضاً.
بوح
تبوح صاحبة «كامليا» بالكثير في سيرتها، بصورة قد تصطدم البعض، فالصفحات تحولت الى فضاء للاعتراف، وإلقاء ما يثقل الروح، لاسيما بعد التجربة التي تعرضت لها، فلا تخفي مثلاً العلاقة التي جمعتها بلاعب شهير كان ملء السمع والبصر في إيران وخارجها، وتروي تفاصيل تلك العلاقة، وخاتمتها التعيسة. ولم تحاول المبدعة الإيرانية إضفاء جانب فلسفي على قصتها مع المحقق، إذ وجدت فيها طوق نجاة، وأملاً للخلاص مما هي فيه، لذا كانت حكايتها معه مركبة، تحوي خليطاً من المشاعر الحقيقية والمزيفة، فذلك الرجل كان بمثابة جلاد ومخلص: «استطعت أن أنسى معاملته القاسية. كنت أسمع وقع خطاه وهو قادم الي على طول الرواق، فلا أكاد أطيق الانتظار، كنت أتخيل أنه ليس قادماً لكي يعذبني بل لكي يحبني. كنت في حاجة الى راحة البال تلك لكي أبعد عني شبح الجنون ولكي أحتفظ بطاقتي على البقاء قوية. كيف كان في وسعي أن أجعله يحبني أيضا؟ إنه يعتبرني مفسدة، تستحق الموت. لم يكن في مقدوري أن أغيره أو أغير العالم. ولكني وقعت في الحب، شعرت بذلك، في حب حقيقي. ولكي أفوز، كان علي أن ألعب دوراً صعباً. لم يكن أي منا قد رأى الآخر، بما أني كنت أواجه الجدار في غرفة الاستجواب. كنت أستخدم صوتي ويديّ لأجذبه، صوتي الناعم والمعبر عن الند أثناء الاعتراف، ويديّ اللتين ترقصان كطيور البجع. كان في استطاعتي أن أحس بتغيره البطيء. صرت أعلم أنه لا يطيق صبراً على اللحظة التي يستطيع فيها أن يدير وجهي نحوه، أن يواجه كل منا الآخر. بت متأكدة من أنه لكي يحقق ذلك، لكي تتاح له تلك الفرصة سيكون عليه أن يساعدني على الفرار. عندئذ، أحيا عبق عطر غطاء أختي ذكريات الناس الذين أحببت، وكل الجمال المنتشر خارج أسوار السجن.. كان صوته قوياً، وفي تلك اللحظة الهشة رغبت في رجل قوي يحميني. وراح يكرر القول إني مختلفة. وآمنت بأني صحافية ذكية وكفؤة وتختلف عن الآخرين».
طالت أيام كامليا، وربما لياليها، مع ذلك المحقق، إذ تطورت الحكاية، وأخذت منحى آخر، بعد إطلاق سراحها، اذ دخلت في ما يشبه زواج المتعة، فقد وقعت على ورقة «الصيغة» كما كانت تسمى، وتمت اللقاءات بين الاثنين تحت سلطة القمع، وبمباركة تلك الورقة المنتشرة حينها في إيران، كما ذكرت الكاتبة.
بين زمانين تسير الكاتبة الإيرانية في سرد سيرتها، تتداخل بدايات الحكايات ونهاياتها، تستهل بفصل عن الطفولة والأيام الأولى وذكريات الثورة في ختام السبعينات، وتقفز في الفصل الذي يليه 20 عاما، لتطالع القارئ الصحافية الشابة وبعض ما تعرضت له في السجن، ولقاءاتها مع المحقق، ثم تعود في ما يلي من فصول الى الوراء، لتتداخل اليوميات الصافية مع المؤلمة، الماضي مع الحاضر في لفتة جديدة، إلى حد ما، على سرد السيرة الشخصية، والذي يعتمد غالباً على ترتيب الأحداث زمانياً، والسير وفق مراحل العمر.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news