أدوار مفروضة.. وتغريبة طويلة تعانيها بــطلة الرواية
«نور» شريف حـــــــتاتة.. تخبو على مسرح الحيـــــــــاة
بأقنعة وألسنة كثيرة، ربما لا تصادف هوى لدى قارئ ما، عاشت بطلة رواية «نور» للدكتور شريف حتاتة، فنهارا هي فتاة معهد الفنون المسرحية، و«دودة القراءة» التي تفضل الجلوس في المكتبة، نائية بنفسها عن الثرثرات الطلابية، والمهاترات السياسية، حسب نصيحة إحدى قريباتها. أما ليلا، فلنور حكاية أخرى، وقناع مغاير، فتحديداً بعد السابعة مساء، تتأهب تلك الفتاة لعالم ليلي، تؤدي فيها دوراً مهنيا قديماً قدم التاريخ، فرضته، حسبما جسّدت الرواية، ظروف الحياة، وقساوتها التي سرقت من نور أباً وأماً وأخاً، وكذلك جدة، وألقت في طريقها عمّاً غليظاً انتهك حرمة جسدها وهي صبية، وتسبّب بتغريبة طويلة لها.. تعثرت الفتاة طويلاً للاهتداء الى محطات نور تسـتريح عليـها، وحـين وجدتها، ما لـبثت أن غـادرتها، نتيـجة ماضٍ يطـارد حاضرها، وكذلك مستقبلها.
من أعماله لمبدع «نور» الدكتور شريف حتاتة الذي بدأ الكتابة بعد رحلة طويلة من النضال الوطني إصدارات كثيرة تتنوع بين الروايات والسيرة الذاتية والمذكرات، ومن أبرز رواياته «العين ذات الجفن المعدني» 1973، و«الهزيمة» 1978، و«الشبكة» 1981، و«قصة حب عصرية» 1984، و«نبض الأشياء الضائعة» 2001، و«عمق البحر» 2002، و«ابنة القومندان» 2008، و«الوباء» 2010. وصدرت سيرته الذاتية «النوافذ المفتوحة» التي أثارت جدلاً كبيرا على الساحة الثقافية، نظراً لجرأتها وكم الاعترافات والبوح المحملة به، صدرت في طبعات عدة، كان آخرها العام الماضي. أما أدب المذكرات فأصدر منه حتاتة ثلاثة كتب هي «تجربتي في الإبداع»، و«في الأصل كانت الذاكرة»، و«يوميات روائي رحال».
|
تعمد صاحب «النوافذ المفتوحة» ألا يطيل المكوث أمام وجه نور «الليلي»، فنأى بقلمه عن الإثارة المتعمدة، والمطّ في تفاصيل أمسيات تبيع فيها فتاة جسدها «الميت» لطالبي متعة، وكأنه يشير بذلك الى أن ذلك ليس الوجه الأصلي لنور، ما هو سوى قناع ألبسته إياها الحياة رغماً عنها، دور مفروض تؤديه فتاة جميلة تحلم بأن تقف على مسرح آخر، في أمسيات علنية، أمام جمهور عريض، لتستعرض مواهب روحها الحقيقية، وحين لاحت لها الفرصة أبهرت الجميع بفنها، كما صورت الرواية: «خطت إلى الأمام وانحنت. علا التصفيق في الصالة قوياً، منغماً. ارتفع في موجات تلاحقت، تهبط قليلاً ثم تصعد. تردد صداها تحت القبة العالية. أبت أن تتوقف كأنها تسعى لاختراقها، لكي تعلن للعالم أن الليلة ولدت نجمة، أن الليلة عرفنا أن القلب هو الذي يبصر، أن الليلة سقطت حساب المنطق لتحيا المعجزة. انحنت مرة ثانية وثالثة ورابعة ثم استقامت بعودها النحيل، ورفعت رأسها. أحست بالنبض في شرايينها، بالانتصار يختال في جسمها، بالماضي يتراجع هارباً. الآن تحيا اللحظة التي حلمت بها، واللحظة التي عاشت وتعذبت من أجلها. ترى بحراً من الرؤوس والعيون، والأكف تتحرك أمامها، بحراً يضطرب ويصخب تحية لها، لكنها لا تشعر به. إنها تبحث عنه هو، تبحث عن عينيه، عن قوامه المرتفع، عن يديه تمتدان نحوها. وفي لحظة رأته، في لحظة تلاقت العيون فرأت ما أعاد الى الحياة معانيها الضائعة».
ألسنة
بعد «كابوسها» المبكر، حاولت نور مجاراة الحياة، والتحايل عليها، واللافت هو تلك الألسنة والحالات التي تتلبسها، بلا أي تعثر، فالقارئ يجدها مثلاً تنطق بلسان «صعيدي» خالص، أثناء حواراتها مع المرأة التي كانت ملاذها الأخير، بعد تهريب جدتها لها من القرية، إثر اعتداء العم عليها، وربما في الصفحة ذاتها يجد القارئ ذلك اللسان يتحول الى آخر قاهري، في وضع موازٍ للعوالم التي تتوزع بينها نور، وتتنقل بينها دروبها، إذ نجح المؤلف الدكتور شريف حتاتة في إزالة الحواجز بين تلك العوالم، وأنطق بطلة حكايته بألسنة متعددة، لعل أبلغها الناطق بحال عالم نور الداخلي، ذاتها الحقيقية، طاقة النور التي كافحت طويلاً، وحاولت الصمود امام انكسارات بلا حصر، توالت في فترة قصيرة، وكانت كفيلة بقصم الظهر، والتخلي عن أشياء كثيرة، ربما لا يستشعرها حراس فضيلة لم يختبروا مرارات الحياة.
تهيمن نور على الرواية الصادرة عن مركز المحروسة للننشر في القاهرة في 195 صفحة، تخبو بجانبها كل الشخصيات الأخرى التي تدور في فلك بطلة الحكاية، يبرز المؤلف ظاهرها وباطنها، يتتبع رحلتها منذ الطفولة، وما قبل واقعة الاغتصاب، يتأنى في تصوير مراحلها الأولى، وإحاطتها بهالات خاصة تمهد للدراما التي ستعقب ذلك، ولعل ذلك من أضعف حلقات بناء الرواية، إذ كان هناك شيء ما يلوح في أفق السرد، يشي بأن «السقوط» قريب، ورحلة البطلة التراجيدية ستبدأ عما قريب، أو عما صفحات لا فارق، سيما بعدما تضاعفت ديون «الأم الثانية» لنور (أم هاشم) المرأة التي أصابها الروماتويد، وجعلها عاجزة عن العمل، ودفعها الى أخذ الدواء من الصيدلية بالدين، وكانت النتيجة المنطقية، وليس بالضرورة الفنية، أن تضحي نور، وتهب نفسها لمساعدة السيدة التي احتضنتها، وكانت ملاذها الأخير في هذا العالم، وأمام الجوع والدواء، لا يسأل المرء عن الدروب التي يلجأ اليها.
حيّز متّسع
يتحرك السرد في حيز متسع مكانياً، يتنقل بين أرجاء مصرية عدة، يطوف ما بين الصعيد، والقاهرة التي تعد مركزاً ومستقرا لشخصيات الرواية، كما تحضر مدن وقرى أخرى، حتى ولو أتى ذكرها عرضاً الا أنها تضفي حالة ما على العمل، وتجعل القارئ يرتحل مع الأحداث الى أنحاء عدة، تدفع دماً جديداً في تيار السرد العام.
كما تثير «نور» مأساة صاحبتها الخاصة، تنكأ كذلك جروحاً أخرى، تضرب بلا هوادة في أعماق المجتمع المصري، نخبة مثقفة ونماذج عادية، تكشف عوار قمة وقاع، إذا جاز التعبير، ساسة برتبة قوادين، ينصبون الفخاخ لجميلات، أصدقاء يتصارعون على قلب فتاة، وربما جسدها، وقريباً عائلياً بدلاً من أن يحمي يغتصب، ويصير دافعا للدخول في متاهة، يصعب الخلاص منها، أو التراجع عنها، وكأنها قدر يطارد صاحبه.
تتعدد مستويات اللغة في «نور»، تحافظ على هدوئها، رغم صخب الأحداث ومأساويتها، تسري فيها روح شـاعرية، سيمـا حينما تصير بمثـابة نجـوى هامسة، تستشف عوالم نور الداخلية، تبوح بما يدور في ذاتها، تحلق بها في عالم آخـر، مغـاير ربمـا لمشهـد آن قـاسٍ مفـروض علـيها، لتمثل اللغة حينئذ ملاذا وخلاصاً.
حوارات
لجأ المؤلف الى الحوار، والذي تعددت صوره، هو الآخر، ليصير حيناً بلهجة صعيدية، يتمسك بها أبطال جنوبيون لم تنسِهم الإقامة الطويلة في العاصمة المصرية أصولهم ولا ألسنتهم، وأحياناً أخرى بلهجة قاهرية تماشي حال المكان الأبرز في الرواية. لكن انحرف الحوار في بعض الصفحات عن النمطين السابقين، فانقلب الى حوار رصين باللغة الفصيحة، فبدا ذلك شيئا غريبا، خصوصاً أن ذلك كان يتم على لسان المتحاورين أنفسهم، ففي صفحة قد يتحدثون بتبسط عامي، وبعدها مباشرة يتقوم اللسان، ويصير عربيا فصيحاً، دونما مبرر، فتوحيد الحوار، بهذا أو بذاك، ربما بدا اكثر اقناعاً، لاسيما أن المؤلف لم يخلق حالات تستدعي تلك النقلات المفاجئة. ولعل أفضل مثال على ذلك: «حملقت في وجهه كأنها لم تفهم ما قاله. أغلقت أصابع يدها وضغطت عليها. نأجل.. نأجل إزاي؟ بسهولة كدا بعد كل الجهد اللي قمنا بيه. نظر اليها كأنه فوجئ: قصدك نعرضها من غيرها؟ أيوه.. أمال هي كانت بتدور على حد يحل محلها ليه؟ دي علوية وما نقدرش نخيب ظنها فينا.. حملق فيها دون أن يعلق. قالت في حدة: بتبص لي كده ليه؟ مش عاجبك كلامي؟ فاكر ان أنا عايزه أحل محلها وبس. إنها متهمنيش، ان عياها ده جالي من السما؟».
وفي المشهد التالي مباشرة يكون الحوار التالي: «كانت الساعة تقترب من الواحدة ظهراً عندما دخلا من باب المسرح القومي، واجتازا الحوش الخارجي الى البهو. توقف كأنه تذكر شيئاً. قال: سأبحث عن تليفون لأتصل بالمستشفى ربما وجدت من يفيدني عن أخبارها (علوية).. استطعت أن أتحدث اليها. تحسنت حالتها وتناولت وجبة خفيفة في السرير، ضحك، حدثتني وهي تمضع.. قالت (نور): يجب أن نشركها قدر الإمكان في ما سنفعل.. أن ننقل اليها أخبارنا. فكرت لحظة قبل أن تستطرد: يا أحمد أريد منك شيئاً. أن تتصل بجميع أفراد الفرقة، وتبلغهم أننا سنعقد اجتماعاً باكر في الساعة الواحدة ظهراً..».
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news