الاستفتاء الأخير على الدستور في مصر أثار مخاوف البعض. إي.بي.إيه

حلم و«دستور فــي صندوق القمامة»

«الدستور».. كلمة ربما كانت الأكثر تداولاً على ألسنة المصريين خلال الفترة الماضية، إذ جسّدت آمال البعض، وأثارت مخاوف آخرين، قبل الاحتكام الى صندوق الاستفتاء وبعده أيضاً. وللمصريين حكايات متعددة الفصول مع مشروعات الدساتير، يلخص عدداً منها الكاتب والصحافي صلاح عيسى في كتابه «دستور في صندوق القمامة»، الذي ينطلق أساساً من قصة اكتشاف عيسى لـ«عقد اجتماعي منسي» لم ينل رضا قادة انقلاب ‬1952، أو ثورة، حسبما يرتضي المختلفون حول ذلك الحدث، فكان مصير ذلك «الكنز» أن يدفن وسط أكوام من الأوراق القديمة.

المؤلف

ولد صاحب كتاب «دستور في صندوق القمامة»، المؤرخ والصحافي صلاح عيسى في الرابع من أكتوبر عام ‬1939 في إحدى قرى دلتا مصر (بمحافظة الدقهلية). بدأ مسيرته مع الكتابة بالقصة القصيرة، ثم اتجه عام ‬1962 للكتابة في التاريخ والفكر السياسي والاجتماعي.

تفرغ للعمل بالصحافة منذ عام ‬1972 في جريدة الجمهورية، وأسس وشارك فى تأسيس وإدارة تحرير عدد من الصحف والمجلات منها «الكتاب»، و«الثقافة الوطنية» و«اليسار»، ورأس الآن تحرير جريدة القاهرة. واعتقل صلاح عيسى مرات عدة بسبب آرائه السياسية، كان أولها عام ‬1966 وتكرر اعتقاله أو القبض عليه أو التحقيق معه أو محاكمته مرات عدة بعد ذلك.

أصدر صلاح عيسى أول كتبه وكان عن الثورة العرابية عام ‬1979، وصدر له أكثر من ‬20 كتاباً في التاريخ والفكر السياسي والاجتماعي والأدب، منها «تباريج جريج»، و«مثقفون وعسكر»، و«رجال ريا وسكينية»، و«شخصيات لها العجب».

قبل أن ينحرف «الضباط الأحرار» عن مسار ثورتهم، كلفوا قضاة وقانونيين ومفكرين يشكلون ألوان الطيف المصري (لجنة الخمسين)، بوضع مشروع دستور، يحل محل دستور ‬1923 الذي أسقطته الثورة. وبعد ‬17 شهراً من الاجتماعات والجلسات أنهت اللجنة عملها، وأعدت ما ظنته كفيلاً بأن يكون عقدا اجتماعيا يرضي طموحات الشعب، ويحصنه من صناعة طغاة جدد، لكن لم ير ذلك الدستور النور.

حرية بحراسة

وصف صلاح عيسى ذلك «الحلم الدستوري» بأنه ينبغي أن يكون أساساً لأي إصلاح ديمقراطي ودستوري جذري، معتبراً أن واضعيه تنبهوا مبكراً الى انحراف الثوريين عن المسار المطلوب، واستشعروا أن الحرية ينبغي ألا تترك دون حراسة دستورية تنص على تحصينها وحمايتها، ولعل التاريخ ومجريات الأحداث في مصر بعد ذلك، أظهرا صدق حدس واضعي مشروع دستور ‬1954 الذي ألقي في سلة المهملات، ولم يعرض على الشعب من الأصل، وكل ما نشرت عنه اقتباسات في صحف أو كتب، الى أن عثر عليه صلاح عيسى، ونشره كاملاً في «دستور في صندوق القمامة»، ليكون الكتاب شاهداً على عصر بكامله.

ارتأى قادة الثورة من العسكر عقب أزمة مارس ‬1954 تجاهل مشروع الدستور الجديد تماماً «ليس فقط لأن أغلبية اللجنة التي وضعته كانت من أساتذة الجامعات والقضاة، فقد نصح تقرير (الخبير في الخارجية الأميركية جيمس) ايخلبرجر، و(عضو مجلس قيادة الثورة) زكريا محيي الدين، بالابتعاد عنهم عند صياغة دستور الثورة، لأنهم يعقدون الأمور، ويغرمون بالتفاصيل، ويفكرون بشكل نظري، بعيد عن المشكلات الواقعية للحياة السياسية، ولكن كذلك لأن المشروع كان ينطلق ــ كما يقول الأستاذ طارق البشري ــ من منزع ليبرالي صرف، وهو ما كان يتناقض تماماً، مع عصر البطريركية الثورية الذي كانت حكومة الثورة قد قصت شريط افتتاحه بعد أيام من انتصارها، ودشنته بإلغاء دستور ‬1923 من دون أن يكون في نيتها العودة إلى مثله».

تجارب

لا يكتفي صلاح عيسى في كتابه الذي يتجاوز الثلاثمائة صفحة ورأت طبعته الأولى النور عام ‬2001، وصدرت منه طبعات عدة في مصر بعد ثورة ‬25 يناير، لا يكتفي بسرد كيفية عثوره على مشروع دستور ‬54، وتحليله لفقراته، بل يعود الى أبعد من ذلك التاريخ، ملقياً الضوء على تجارب دستورية سابقة، ولعل أبرزها دستور ‬1923 عقب استقلال مصر، الذي وضعته لجنة مكونة من ‬30 عضواً تم وضعها بالتعيين.

ويلفت عيسى الى أنه دوماً كان هناك من يرون أن الشعب لم يصل بعد إلى درجة النضج التي تؤهله لنظام ديمقراطي كامل، إذ تتعالى أصوات تحاول تقليص صلاحيات الشعب، وتهاجم الأحزاب والتعددية في مقابل مناداة تلك الأصوات النخبوية غالباً، والتي يكون من بينها مفكرون وكتاب وصحافيون، بإعطاء سلطات مطلقة للملك أو الحاكم، من يعتبره البعض «المستبد العادل» أو الأب لأفراد لم يبلغوا سن الرشد، لذا يجب فرض الوصاية الجبرية عليهم. برزت تلك الأصوات، كما يبين صلاح عيسى منذ تجربة الدستور الأول في مصر، واستمرت، وليس الدستور الأخير ببعيد عن تلك الأجواء، رغم أنه من المفترض أنه أتى بعد ثورة على نظام مستبد.

مزايدات بالديمقراطية

يهاجم صاحب كتاب «تباريح جريح»، و«شخصيات لها العجب» بقوة المتصارعين على الحكم، والذين يرفعون رايات الديمقراطية ويزايدون بشعارات المبادئ الدستورية، الى أن يصلوا الى غايتهم، فينقلبوا على ما كانوا يحتجون به، مشيراً الى أن ذلك كان عنوانا لما حدث مع قادة ثورة يوليو ‬52، بين محمد نجيب من جهة، وجمال عبدالناصر وعبدالحكيم عامر من جهة أخرى، ثم بعد ذلك بين الأخيرين كل واحد منهما في مقابلة الثاني، واستمر الوضع المصري مشتعلاً بالصراعات الدستورية «اللادستورية» ذاتها خلال عصر أنور السادات الذي دخل في معارك مع من سماهم «مراكز القوى»، متدرعاً بأسلحة الديمقراطية والمبادئ التي وضعت في دستور ‬1970، وأشرف السادات نفسه على صناعتها على عينه.

لم تخل صفحات «دستور في صندوق القمامة»، من تناول الأزمات الدستورية خلال فترة الرئيس السابق محمد حسني مبارك، بل ربما كانت هي الباعث للكاتب صلاح عيسى على السعي وراء تأليف الكتاب، والكشف عن الوثيقة المهمة لمشروع دستور ‬1954، فعيسى كان أحد المطالبين بالإصلاح السياسي والدستوري، وضرورة البحث عن مخرج للنفق المظلم الذي استطال، لاسيما بعدما استشعر البعض أن مبارك، المستند الى الدستور هو الآخر، سيبقى رئيساً الى ما شاءت الأقدار.

سد الباب

يخصص صلاح عيسى صفحات طويلة من كتابه للإشادة بمشروع «الدستور المنسي»، مستعرضاً ميزاته التي حرم منها الشعب المصري، واللافت أن أحد بنود ذلك المشروع كان سيحرم الراحل جمال عبدالناصر نفسه من تولي زمام الأمور في مصر، إذ كان يشترط في من يترشح لمنصب رئيس الجمهورية أن يبلغ عمره ‬45 عاماً، بينما كان «ناصر» حينها في الـ‬37.

يقول عيسى في كتابه «لم يكن الذين صاغوا مشروع دستور ‬1954 سذجاً على النحو الذي يدفعهم للقفز على الواقع الذي كان قائما آنذاك، لكنهم قرأوه على نحو مختلف، فأرادوا أن يسدوا الباب أمام الاستبداد الذي بدأت نذره، وكانت عيونهم مفتوحة عن آخرها على المستقبل، والغالب أنهم أرادوا أن يتركوا لأمتهم وثيقة يمكن أن تصوغ هذا المستقبل، فوضعوا مشروعا لدستور ينطلق من رؤية ليبرالية نقية، قبل أن تتوحش الليبرالية وتفقد ألقها، لنفس السبب الذي فقدت به ثورة يوليو ألقها، فتحولت من حلم إلى كابوس، ومن راية لانتصار الشعب إلى راية لهزيمة الوطن والأمة، فقد كان معظم أعضاء اللجنة، من علي ماهر ومكرم عبيد الى علي زكي العرابي ومحمد صلاح الدين وعبدالرزاق السنهوري من الجيل الذي صنع الرؤى الديمقراطية والليبرالية لثورة ‬1919، ومن الجيل الذي نشأ في ظلها، وقد يكونون قد أخطأوا في بعض ممارستهم السياسية، لكن المؤكد أنهم أرادوا أن يتركوا وثيقة تصوغ حلم المستقبل الديمقراطية، لعل يوماً يأتي يتراكم فيه الغبار على الحاضر الثوري الذي كان قائماً آنذاك، فيصبح ماضياً تذروه الرياح، وتلقي به في سلة المهملات الى جوار وثيقتهم، وتتيح الظروف لمن يفتش عن أسباب ذلك أن يجد هذه الوثيقة في صندوق القمامة، فيعيد نشرها لتكون بوصلة لهذا الحلم الديمقراطي، ينقذ الوطن والشعب من كابوس الاستبداد».

الأكثر مشاركة