«عباءة المقام».. مــواجع أنثوية ومذبح رجولي
بـ«عباءة المقام» تعود الكاتبة الكويتية، ليلى العثمان، الى فنها الأثير، القصة القصيرة، راسمة مواجع وعواطف أنثوية، تنتصر لحواء، وتحاول إدانة الآخر، من يلوح غالباً بإطلالات شهريار قاسٍ مزواج، حتى وإن بدا أحياناً في صورة حبيب، فيكون متردداً موزعاً ما بين أكثر من واحدة.
نتاج ولدت ليلى العثمان في عام 1943، ومن مجموعاتها القصصية «امرأة في إناء»، و«الرحيل»، و«في الليل تأتي العيون»، و«الحب له صور»، و«فتحية تختار موتها»، و«حالة حب مجنونة»، و«حلم غير قابل للكسر». ومن أهم أعمالها الروائية «المرأة والقطة»، و«سمية تخرج من البحر»، و«العصص»، و«صمت الفراشات»، و«خذها لا أريدها»، و«حلم الليلة الأولى». وفي السيرة الذاتية أصدرت «بلا قيود دعوني أتكلم»، و«المحاكمة.. مقطع من سيرة الواقع»، ولها كتاب في أدب الرحلات بعنوان «أيام في اليمن». وأثارت بعض أعمالها أزمات مع الرقباء في الكويت، ووصلت بعض فصولها الى ساحات المحاكم. |
ما بين جرحين يتوالى السرد في «عباءة المقام»، إذ تستهل ليلى العثمان مجموعتها بـ«الذبيحة» وتختتمها بـ«نشوة ميتة»، وفي القصتين ثمة سيدتان مجروحتان مهزومتان، لكل منهما حال مختلفة، لكن تبقى محطة النهاية واحدة، وهي «المذبح الرجولي» التي تصل اليها بطلتا الحكايتين، حتى وإن لم تستسلما بشكل مطلق.
في «الذبيحة» تسعى المرأة لتغيير الحال، وتنتفض محاولة التمرد، وتترك منزل زوج اعتبرته مخادعاً، إذ أوهم عائلتها بأنه تاجر، وفوجئت بأنه صاحب مهنة مختلفة تعافها نفسها، لذا حاولت أن تشق لنفسها طريقاً ربما لا ترتضيه أعراف مجتمعية عتيقة، فتهجر ذلك الزوج، لكنها تفاجأ بسلطة ذكورية ثانية، تحاول إعادتها الى حظيرة الطاعة، وهو في هذه المرة الأب، الذي لا يسمح لابنته بالكلام، ولا يعطيها فرصة لتبوح بمشاعرها، فهو غير مستعد لأي حوار، لا من الابنة ولا حتى من الأم، وتعود البطلة الى زوجها، متسلحة بسكين تضعها تحت مخدتها، كيما تستطيع الدفاع عن ذاتها، لاسيما أن زوجها (القصاب)، أخبرها، قبل هجرانها المنزل، أنه حلم يوماً بأنه يذبحها، وكأنها أحد الخراف التي يجزّ رقابها كل يوم.
جروح
بعيداً عن أجواء «الذبيحة»، وليس عن أحزانها، ربما تأتي القصة التي تحمل عنوان مجموعة ليلى العثمان، وهي «عباءة المقام»، فالجروح فيها مشتركة ما بين «هو وهي»، وهناك بطلان يحمل كل واحد منهما قصة عشق قديمة، حاولا التشافي منها بنصائح المقربين، عبر التماس البركة من قوة أعلى، ترتبط في وجدانات كثيرين بالعلاج الناجع، لكن تنتهي القصة بمرارة، اذ يرحل الحبيب، تاركاً لخطيبته عباءة لا تعرف حكايتها الا بعد أن يتوسد ذلك الحبيب التراب: «عرفت سر العباءة، وسر حبه القديم، عشقته تلك المرأة وعذبته حتى كاد يشرف على الجنون. تلبست أمه فكرة أن المرأة سحرته، خافت عليه، ذهبت به الى بغداد، واشترت له العباءة، وأخذته الى الكاظم لتفك عنه سحرها، مسحت العباءة بكل شبر حول الضريح، ثم ألبسته اياها، وحلّفته الا يخلعها أو يضيّعها. لكنه في لحظة حب نسي الوصية، وربما لم يكن مؤمناً بما آمنت به أمه من شعوذات السحر وتأثيره فآثرني بها، هل أصدق أنه ضاع لهذا السبب؟ خفت من العباءة، تأملتها وهي منثورة فوق السرير، أحسست بأن كل خيط فيها مشغول بالوساوس التي أثقلته، وبأن لها ألف عين ترجمني بحجارة تلك المرأة التي تخلص منها».
ويكون مصير العباءة في النهاية موج البحر، إذ أسلمتها الراوية لها، وكأنها بذلك تصنع ما لم يتجاسر البطل الراحل على صنعه، إذ عاش زمناً أسيراً لحبيبة ولم يتحرر منها حتى بحب جديد، وعباءة دفأت الجسد، ولم تغير ما في الروح، إذ كان يأمل، هو ومن حوله، أن تكون العباءة بمثابة مخلص.
استهلالات منوعة
لم تلجأ ليلى العثمان الى نمط فني ثابت في بناء مجموعتها القصصية، إذ حاولت أن تثري ذلك الجانب، فمثلاً عمدت الى بدايات واستهلالات منوعة، مرة بسرد أو وصف، وأخرى بحوار كاشف يعلن مبكراً أزمات شخوص الحكايات الصغيرة، واللقطات الحياتية والتفاصيل الإنسانية البسيطة التي تتميز بها القصة القصيرة، وتعالجها بأنماط مختلفة عن غيرها من الأنواع الأدبية الأخرى.
وتبرز في «عباءة المقام» بشكل خاص تقنية الحوار، التي لعبت عليها الكاتبة بشكل خاص، وشيدت عليها بعض قصص المجموعة، ما أثرى الحكايات بأصوات عدة، وأبرز فيها شداً وجذباً بين أكثر من طرف، لتخرج القصص عن ثبات الصوت الواحد الذي يجعل القارئ يستشعر أحياناً أنه يستمع لشكاية طويلة من طرف «المبدع»، حتى ولو توارى خلف راوٍ مكشوف.
كما نوّعت الكاتبة ليلى العثمان في حواراتها التي استعانت فيها بمفردات محلية من بيئتها الكويتية، لتعبر عن تأثر الشخوص بحيزهم، وتنطق بهويتهم الحقيقية، فاستعانت بجزء من قاموس حياتهم الخاص، وذلك كي تكتمل الصورة التي حاولت القصص أن ترسمها، وتنطق بخصوصيتها في أحايين كثيرة، مبرزة بصمة الكاتبة.
مساحة
اللافت أن الكاتبة الكويتية ليلى العثمان، رفضت أن تغادر المساحة الأنثوية، إلا في قصة واحدة في المجموعة، وهي «حكاية مرزوق»، التي توارت فيها المرأة، وأدار دفة الحكاية صوتان ذكوريان، أحدهما يعد رمزاً للأصالة التي لا تجد لها مناصرين، حتى من أقرب الناس إليها، إذ تكالب أبناء ذلك الأب المريض على ميراث أبيهم، بينما رفضوا ساعة قديمة تحمل ذكريات غالية على الأب، وكذلك الجد، وترتبط بتراث المكان وحكاياته الأصيلة، والشخص الوحيد الذي جاور الأب في محنة مرضه هو من فاز بتلك الساعة، وحصد داناتها المخفية منذ زمن.
وتضم «عباءة المقام» الصادرة عن «الدار العربية للعلوم ناشرون» في بيروت في 88 صفحة، قصص «الذبـيحة»، و«القلـب اليـباب»، و«بشـت الـعيد»، و«حـكاية مرزوق»، و«رنين أخير»، و«سوق الألقاب»، و«سيجارة أمي»، و«عباءة المقام»، و«كبوشة والبئر»، و«لن أخسر شيئاً»، و«ليتها حمامة»، و«نشوة ميتة».
ومن القصة الأولى «الذبيحة»: «كم أكرهك، يدك ملوثة وقلبك آثم، رائحتك تزكمني، ومهما استحممت وتعطرت يظل زفر الدم عالقاً بك، كفاك الخشنتان وأصابعك الملتوية غير المتناسقة بسبب إمساكك بالسكين لا تستحقان ملامسة وجهي الناعم، ولا مداعبة جسدي الأرق من شفة الطفل. فارقني النوم.. أبقى ساهدة أخشى أن تغمض عيناي قبل أن تنام أنت، وحين أوشك أن أنسل الى معابر الحلم، أنتفض. أحسك تلاحقني بسكينك المتعطشة لمزيد من الدم وكأنك في حلمك تحسبني واحدة من قطيعك فتمارس علي جريمتك فلا أصحو بعدها. لا أطيق أنفاسك، ولا رائحة شعرك التي تتمازج فيها روائح الأصواف والوبر والحظائر. حتى رائحة فمك لا أطيقها لأنها تفوح بمعاجين الكذب منذ أن كذبت أول مرة على أبي وأنت تخطبني: أنا تاجر مواشٍ، أشتري وأبيع، وتجارتي رائجة والحمد لله. سكت لسانك. وأبي المدهوش بكلامك عن الثروة التي تملكها أغواه بريق المال فباعني اليك نعجة ضممتها الى نعاجك الأخريات. أخاف منك.. أخاف أن تداهمني غواياتك التي تمارسها في النهار، والتي لا أحسك قد تخلصت منها حين تعود. فكل ليلة أتصورك شهريار الذي سيرفع سيفه ليجز عنقي. فالأمر سهل عليك لأنك اعتدته، لكنني لا أريد أن أعتاد خوفي، خاصة بعد ليلة البارحة التي كانت أصعب من ليلة الزواج».