«جنود البعوض».. على مسافة واحـدة من الموت
جسدت أعمال الفنانة اللبنانية، زينة عاصي، التي قدمتها في معرضها، الذي افتتح أخيراً في «آرت سوا غاليري» في دبي، أوجاع سورية التي تنزف الدماء يومياً، لكن بتجرد مبتعدة عن التشكيك أو تصديق ما يحدث، مكتفية بتوصيف أوضاع البشر. هذه الثورات التي لم تترك الكثير من الفنانين بمنأى عن الأحداث، حيث إن أعمال معظمهم توجهت نحو الدماء التي تنزف يومياً في بلدان «الربيع العربي»، جعلت عاصي تبتعد عن المدن والزحام البشري اللذين شكلا منهجاً لأعمالها في المرحلة السابقة، لتطلق في «جنود البعوض» صرخة فنية منبثقة من الواقع الأليم للشعوب التي تعيش الثورات.
موت
رواية «أمير الذباب» تطرح التحولات التي تمنحها عاصي لشخوصها في المعرض علامات استفهام حول طبيعة التحول ودلالته، وتعيدنا التشكيلية اللبنانية في هذا المشهد إلى رواية ويليام غولدنغ، الكاتب الذي حاز جائزة نوبل عن هذه الرواية، والذي يتحدث عن مجموعة من الطلاب البريطانيين أجبرهم وجودهم في جزيرة منعزلين بعدما خرجوا من طائرة على ان يعيشوا في حالة صراع من أجل البقاء. وتطرح الرواية الكثير من المشاعر المتناقضة بين القرار الفردي والجماعي، وبين ردود الفعل العقلانية أو العاطفية، الى جانب عرض الرذيلة والفضيلة، فتنمو للأطفال أجنحة ويتحولون إلى كائنات وحشية. هذه الرواية التي لم يُبَع منها أكثر من 3000 نسخة، عند أول صدورها عام 1955، تحولت بعد الستينات لتصبح واحدة من الكتب الأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة الأميركية، حيث باتت تدرس في المدارس والجامعات. وقد تم اقتباس فيلمين عن الرواية، الأول عام 1963 من قبل بيتر بروك، والآخر عام 1990 من قبل المخرج هاري هوك. |
رائحة الموت تفوح من أعمال عاصي، فالأماكن التي يجلس فيها الشخوص ملطخة بالدماء، وهم في حالة ترقب وصمت، وبعضهم في حالة تأهب يقبض على زناد سلاحه مستعداً للدفاع عن نفسه. التردد والألم والخوف؛ كل هذه المشاعر المتناقضة توجدها عاصي في الوجه الواحد، لتبرز من خلاله ما يعتري شعباً كاملاً، هكذا تتحول المشاعر الفردية الى جماعية، فلا مكان في هذه الحالات الى ما يسمى بالمشاعر الفردية، فالأفراد يمثلون المجموعة التي تمثل بدورها المجتمع بأكمله. هذا المشهد الذي تصوره الفنانة اللبنانية، والذي يحمل كل هذا الخراب والموت، لم يعد مؤثراً في الناس، فالموت يصبح مألوفاً مع مرور الوقت ويتحول البشر الى مجرد أرقام في النشرات الإخبارية المسائية. وتوجه عاصي اهتمامها إلى إبراز التآلف الذي ينشأ بين البشر وما يعتاده البشر، سواء كان البؤس والعنف أو حتى الموت، فالثورات التي شكلت محور اهتمام الناس في بداياتها، شكلت أرقام ضحاياها في صدمة حقيقية للرأي العام، لكن مع ارتفاعها اليومي من المئات إلى الآلاف تحولت الصدمة إلى خبر عادي قد يمر في نهاية نشرة الأخبار وليس في بدايتها. هذا التحول في الرأي العام والإعلام، يرافقه تحول في الرأي العام العالمي الذي بات يرى كل هذه الدماء ولا يحرك ساكناً، فيضطر البشر الى أن يحولوا أنفسهم الى جنود كي يدافعوا عما تبقى لهم من وجود على هذه الرقعة من الأرض.
جنود
اتخذت عاصي في معرضها، الذي يستمر حتى 17 ابريل، مشهد البشر وكيف أجبرتهم هذه الثورات على تغيير روتين حياتهم اليومي، فأبعدتهم عن أعمالهم وعائلاتهم وممارساتهم، لتحولهم الى جنود أو قناصين أو حتى ضحايا. هؤلاء لم يختاروا أن يكونوا جنوداً أو أن يحملوا سلاحاً، ولكن كل ما يحيط بهم قادهم إلى لعب هذه الأدوار التي جعلتهم متشابهين في الختام، فالحرب التي تقوم بين أبناء البلد الواحد تضع جميع أبناء البلد في خانات القتال من دون ان يتدربوا عليه، أو أن يكونوا محضرين لمواجهة كل هذا العنف في حياتهم. الأعمال التي ترصد البشر لا تفرز فيها عاصي الجنود من وجهة نظر محددة، فتارة نجدها تبرزهم جنوداً يرتدون ملابسهم العسكرية، وتارة هم ملثمون يحملون أسلحتهم وسبحاتهم أو سجائرهم، في حالة انتظار لمعركة آتية لا محال، هذا التنوع بين الجنود، وبالتالي بين أسباب القتال، يضع جميع أبناء البلد على مسافة واحدة من الموت.
هشاشة
تدخل أجنحة البعوض التي تمنحها عاصي للبشر في حالة من الضعف، فعلى الرغم من كون هذه الأجنحة التي تشكلها تبدو كأنها نمت بسبب اضطرارهم الى الدفاع عن أنفسهم، إلا أن منح هذه الصفة للبشر تضعهم في خانة الضعفاء، فالبعوض يتميز بالهشاشة وبسهولة القضاء عليه. ومن هنا يُطرح الكثير من علامات الاستفهام والتساؤلات حول التحولات التي أوجدتها عاصي ومنحتها لهؤلاء الشخوص، خصوصاً أن هذه الهشاشة تتجلى بصورة واضحة من خلال العمل النحتي الذي حمل عنوان «الجندي اللعبة»، المصنوع من البرونز، والذي تصور فيه الفنانة الرجل الجالس على مقعد وعلى رجله جندي يصوب بندقيته نحوه، هذا الجندي اللعبة، الصغير الحجم، لا يشكل أي تأثير في القامة الضخمة أمامه، ولا يثير فيه أي مشاعر خوف. كل هذه المشاعر التي تطرحها عاصي، تقودنا في الختام الى خلاصة حول طبيعة وجدوى التحولات التي حدثت، وما إذا كانت ستقود البلاد الى وضع افضل أم انها مجرد لحظة عابرة من التفكك تحدث تحت تأثير الطبيعة فقط.