«هربـت».. خـادمـات و«نصّابون» وأحلام صغيرة
بروح مغايرة، يطلّ الكاتب الإماراتي، خالد الجابري، في روايته الجديدة «هربت»، إذ يرسم صاحب «ابتسامة الموتى» هذه المرة ابتسامات حية، وضحكات صافية، عبر أدب ساخر يتماس مع الواقع، ويقترب من الهموم اليومية، مشكلاً لوحة كاريكاتيرية ممتدة على مدار صفحات رواية «هربت» التي صدرت أخيراً عن دار «كتّاب» في 254 صفحة.
قسّم الجابري روايته الساخرة، إلى فصول عدة، أو بالأحرى مشاهد متجاورة، يسردها رواة مختلفون، يرسم كل واحد منهم جزءاً من حكاية «الهروب الكبير» للخادمات من المنزل، فثمة زوجان (عبدالله) و(سارة)، وطفلان (سالم) و(شهد)، وهناك أيضا الحماة وراوٍ محايد.. كل واحد من هؤلاء يقص طرفاً من الحكاية، ويصف وقْع «الأزمة» عليه، وكيف تسير الحياة من وجهة نظره هو، يستوي في ذلك الكبار والصغار، ما أضفى تشويقاً على القصة التي لم يحتكرها صوت واحد، وإن كان للأب النصيب الأكبر منها.
رسام ومهندس وقاص
خالد الجابري، كاتب ورسام كاريكاتور ومهندس، من مواليد أبوظبي، تخرج عام 2004 في جامعة الإمارات، تخصص هندسة ميكانيكية، ويمارس العمل في هذا المجال. حاز جوائز عدة في القصة، ومن بينها الجائزة الأولى في مسابقة القصة القصيرة بجامعة الإمارات عام 2004. وتعد «ابتسامة الموتى» هي مجموعته القصصية الأولى، وصدرت في عام 2009 عن مشروع قلم التابع لهيئة أبوظبي للثقافة. وتضم «ابتسامة الموتى» قصصا قصيرة، حرص صاحبها على كتابة تواريخ كتابتها، والتي تعود الى سنوات مختلفة. وتتميز بنفس هادئ، ولغة تأملية. كما صدرت لخالد الجابري رواية أولى بعنوان «الرحالة» في العام نفسه. وله مجموعة قصصية ثانية بعنوان «الحياة الثانية»، أما «هربت» فتعد روايته الثانية، لكنها أولى محاولاته في ميدان الكتابة الساخرة. |
ولا تخفي المعالجة الساخرة في رواية «هربت» روحاً طفولية تبرز في كثير من الصفحات، وتغلف فصولاً عدة في الرواية، تجتذب تلك الروح قلم صانع الحكاية، خالد الجابري، وتجعله متلبساً حالة عفوية، لاسيما حينما يدير دفة السرد الصغيران (سالم) وأخته (شهد)، إذ كانا بمثابة استراحتين بريئتين في العمل، حتى وإن ظهرا أنضج وأكثر وعياً أحياناً، فهما يعبران عن عوالم مختلفة، أحلام صغيرة، قد لا تكون مرتبة في صور منطقية، لكنها تتميز ببراءتها، وذهابها في مسارات مختلفة، ليست بغريبة عن الجو العام السائد في الرواية. فالصغيران لهما فلسفتهما الساخرة الخاصة، إذ يرقبان الأحداث، ويتطلعان الى الأمر الذي زلزل كيان الأسرة بكثير من التعجب، ويدفعان هما الآخران ضريبة قد لا يشعر بها من لا يعيرونهما انتباها، لاسيما الأب والأم اللذان لا ينتبهان في أوقات كثيرة الى أن هذين الكائنين الصغيرين، يتشاركان في الهم العام، ويتابعان بتأثر مسلسل هروب الخادمات المتكرر الحلقات، في الأسرة على مدار شهور وسنوات بلا انقطاع.
مفارقات
لا تخلو كتابة ساخرة، ولا تحلو أيضاً، من دون المفارقة، ومفاجأة القارئ بما يدهشه، بعيداً عن الاستخفاف، الذي قد يخلطه البعض أحياناً بالسخرية، فيحيلها، إن جاز التعبير الى «مسخرة» مليئة بالاستظراف والاصطناع.
في المقابل، استطاع الكاتب الإماراتي خالد الجابري، استخدام تقنية المفارقة، والاستفادة منها في بناء عالم روايته، فـ(أمينة) الخادمة لم تنل من اسمها نصيباً، بل كانت على النقيض من ذلك، إذ ضيعت أمانة أهل البيت، وسرقت ذهب الزوجة، وفرت. بينما تبرز صورة مفارقة أخرى في أن القصة التي اعتمدت بشكل رئيس على هروب الخادمة، تتسرب في دروب كثيرة، وتشرع العديد من النوافذ على قضايا مجتمعية بالجملة، داخل المنازل وخارجها، على مستوى الأسرة الصغيرة، ومستوى الأسرة الكبيرة والمجتمع أيضاً، فثمة اعتماد بشكل مبالغ فيه على الغير، بحيث إذا غاب اضطربت أحوال الجميع، ولا يستطيعون إعداد وجبة غداء، وكذلك هناك إيمان بالخرافات، والتماس حل الأزمة من «نصابين» يستغلون اضطراب الآخرين، كما الحال في الرواية عندما لجأت الأم وابنتها (سارة) الى أحد هؤلاء، واستجابتا لطلباته التي كانت ستسبب مصائب لأفراد الأسرة.
عمد الكاتب خالد الجابري في «هربت» الى الحوارات السريعة بين العديد من الشخصيات، في كثير من صفحات العمل، فالحوار الذي كان معظمه بلغة محكية بلا أي تكلف، أكمل الصورة الكلية الساخرة. ومن بين الحوارات ذلك الذي دار بين الزوجة سارة وامها:
«قالت سارة في تساؤل:
- احنا ندور على شو؟
- عن العمل يا بنتي.
- عمل اثيوبي بعد.. غير المغربي. تنهدت في نفاد صبر، وقلت لها لأبين لها جهلها:
- العمل عمل، كان مغربي ولا اثيوبي. يمكن الاثيوبية سحرت زوجك بعد.
- والمغربية بعد سوتله سحر؟ الحين كل من هب ودب سحر زوجي؟
- ممكن الواحد ينسحر أكثر من مرة يا جاهلة، انت سوي اللي أقولك عليه وبس».
قصة حب
على الرغم من أن مفارقات كثيرة تبرز في رواية «هربت»، إلا أن الحماة ظهرت بصورة نمطية، فهي المسؤولة عن جانب من أزمات زوج ابنتها الذي يفيض به الكيل في النهاية، ويضطر الى وتسفيرها الى بلدها (أي الحماة). وتعود المياه الى مجاريها في نهاية الحكاية بين الزوجين، فما بينهما قصة حب أكبر من هروب الخادمات، وما ينتج عن ذلك من أمور قد تنغص بعض يوميات حياتهما.
ومن أجواء العمل على لسان الصغيرة (شهد): «أنا أحب قنوات الكارتون كثيراً وأتمنى لو أعيش في إحداها لأنها مليئة بالسعادة، ولا يوجد فيها فقراء وأناس تعاني من المرض، وكل الأمنيات تتحقق في نفس الوقت. مرضت خالتي سعاد بذلك المرض (اسمه يذكرني بسرطان البحر، هل هو السرطان؟)، وما إن علمت بذلك حتى انطلقت نحو الدكان واشتريت عصا سحرية سوداء ذات طرف معدني براق، فلقد رأيت في قناة (إم بي سي ثري) الولد الساحر وهو يشفي المرضى بتلك العصا في نفس اللحظة بشرط أن يقرأ تعويذة معينة قبل استخدام العصا. خبأت العصا في شنطتي الوردية بماركة (فلة) وانتهزت زيارة أمي الأخيرة لها وقلت التعويذة ومن ثم استخدمت العصا عدة مرات وخالتي تنظر في سرور غريب ممتزج بشيء من الحزن.. هل كانت تبكي؟ قالت لي أمي إنها سافرت الى الجنة، لأنها أجمل من غرفتها التي في المستشفى. سمعت كثيراً عن الجنة من (مس زينة) مدرسة الدين وشعرت بشوق كبير لزيارتها. ولكن ذلك لا يبدو لي سهلاً. في البداية اقترحت أن أصنع صاروخاً في حوش المنزل بإمكانه أن يحملني الى الجنة، لكن جدتي ضحكت كثيراً على صاروخي المصنوع من كارتون الغسالة الجديدة، وقالت لي إن الموتى هم من يحق لهم زيارة الجنة في الوقت الحالي، رفعت يدي الى السماء المرصعة بالنجوم وحدقت الى القمر وأنا أدعو بإلحاح: يا رب أريد أن أسافر الى الجنة حيث خالتي لأني مشتاقة لها كثيراً، أو يارب حولني الى شخصية كرتونية واجعلني أعيش في التلفزيون. سوف أصلي لك كل يوم ولن أترك فرضاً، وسأقرأ القرآن وأقبله كل يوم.. يا رب. عادت النجوم للسباحة في دموعي الغزيرة وفزعت عندما ربتت يد صغيرة على كتفي وسمعت صوت (سالم) يقول بتعجب: شو تسوين هني؟ أبكي.. انت من وين تجيبين كل هالدموع؟ الماي في جسمك تخلص».