«سفر إعادة التكوين»..سؤال الهوية ومعنى للحياة
تتسع الرؤية وتتسع العبارة أيضاً في رواية الكاتبة المصرية ناريمان الشاملي «سفر إعادة التكوين» التي تطرح الأفكار في تصاعد درامي لاهث، وفي جمل تقريرية أحيانا، عبر جغرافيا تمتد من اليابان إلى أميركا، في سبيل بحث البطلة عن هويتها أو عن معنى لوجودها.
فالبطلة التي هي ثمرة تاريخ من القهر واستلاب الذات، وتنازع الهويات بين إيران والمغرب وإسبانيا ومصر، حين تعجز عن الوصول إلى معنى لحياتها، تحاول خلق هذا المعنى بالانتماء إلى الإنسانية، عبر تجارب أممية في السودان واليابان، إلا أنها ستكون أكثر وفاء لتاريخها، وتعيد إنتاج اغترابها الشخصي ممثلاً في طفل تبنته «سيكون كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى»، وكأننا أمام أسطورة سيزيف في صعوده الأبدي بالحجر إلى قمة الجبل.
و«سفر إعادة التكوين» رواية رحلة تعيد تفكيك الحقيقة لتقول إنه لا توجد حقيقة بل أسئلة عنها وحولها يطرحها القلقون، بهدف البحث عن يقين أو أمان نفسي. ولا تنال البطلة هذا الأمان رغم سياحتها في العالم، واستعراضها ثقافات وفلسفات وطرائق معيشة وعادات وأساطير.
والرواية التي أصدرتها «الكتب خان للنشر والتوزيع» في القاهرة، وتقع في 199 صفحة متوسطة القطع، هي العمل الروائي الأول لناريمان الشاملي التي تعمل أستاذة للغة العربية بجامعة طوكيو للدراسات الأجنبية في اليابان، بعد أن ترجمت للعربية ثلاث روايات، هي «هكذا كانت الوحدة» للإسباني خوان خوسيه مياس 2009، و«شقيقة كاتيا» 2008، و«نية حسنة» 2011، وكلتاهما للإسباني أندرس باريا.
أسئلة وجودية
تبدأ الرواية بموت ابن البطلة واتساع الهوة النفسية بينها وبين زوجها، ويفجر موت الطفل أسئلة وجودية عن تاريخ عائلة الراوية التي ولد أبوها لأبوين مغربيين من أصول إسبانية مغربية، وعاش حياته كلها قبل زواجه في المغرب، ثم تعرف إلى أمها الإيرانية في إيران وتزوجها هناك، وانتقلا للإقامة في مصر.
وتستعير الرواية من سفر التكوين آية «وكانت الأرض كلها لساناً واحداً ولغة واحدة» قبل أن تسجل أن والد البطلة حرم على «الأم التعيسة» أن تتحدث بأي لغة أو لهجة إلا العربية الفصحى، واستسلمت الأم التي كانت ذكية ومتمردة لجبروته واستسهلت اللجوء إلى الصمت، بعد أن اشترط عليها أن تتحول إلى المذهب السني.
وفي ليلة زواج البطلة ارتمت أمها في حضنها وتشجعت غير مبالية بصرامة تعليمات الأب، وامتلكت القدرة على الكلام بلغتها الفارسية كأنها تنفث عن هموم عمرها كله، كان الفكاك من العبودية ضريبته الحياة نفسها. وأمها اختارت وأحسنت الاختيار، إذ ماتت بعد مرور شهر على استعادة لسانها.
وبموت الأب بعد أشهر عدة ثم طلاق البطلة تشعر بانهيار العالم من حولها، لكنها بتحررها أيضا من أوهام كثيرة تبدأ رحلة البحث عن معنى وجودها، وتلمس الطمأنينة في اللجوء إلى أصدقاء تجمعهم الخمور وتدخين الحشيش الذي زادها قلقاً لم يشفها منه الذهاب إلى طبيبة للأمراض النفسية، وترى أن عليها البحث عن جذورها.
لكنها في رحلاتها التي بدأت بإيران كانت في حوزة ماضيها اللغوي والثقافي العربي. لم تكن أسيرة له، وإنما بصحبته مستعيدة أبياتا من أشعار جبران خليل جبران ونزار قباني وصلاح جاهين ومحمود درويش. ولا تمنحها إيران يقيناً فتذهب إلى المغرب «آخر أحلامها لتعثر على أول خيوط سلالتها»، ولكن المغرب يخذلها فلا يبقى أمامها شيء، وفي الوقت نفسه لا تريد العودة لمصر «لا يربطني بها شيء الآن»، فتسافر إلى إسبانيا موطن جدة أبيها.
ولا تخرج من إسبانيا إلا بفرصة للعمل في الترجمة الفورية بالأمم المتحدة بترشيح ودعم رجل مثلي، وتذهب أولا إلى سان فرانسيسكو وتكتشف «بعض الفساد بين بعض المثليين. وكاذب من يقول غير ذلك. فهم يحاولون أن يساعدوا بعضهم بعضاً في الحصول على أفضل الوظائف والوصول إلى أعلى المراكز ظناً منهم بأن الغيريين ما كانوا ليساعدوهم على هذا».
جذور أخرى
يوفر لها العمل في الأمم المتحدة فرصة السفر إلى السودان، فترصد مظاهر الفقر والقهر، وتقرر الذهاب إلى اليابان كمكان خارج دائرة تحديد هويتها أو أصولها، وتعمل في جمعية لمساعدة النساء اللاتي تعرضن لعنف جسدي أو نفسي، وتتزوج يابانياً وتبدأ معه معاناة جديدة بسبب عدم الحمل، ويتبنيان طفلاً صينياً وتعد بأن «تخلق له جذوراً أخرى لا تكون هي مصدرها الوحيد، سيكون غريباً مثلها. سيكون كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى».
وتخلو لغة الرواية من الحشو، ولكن المؤلفة تستبدل أحيانا بالمشاهد الدرامية وصفا تقريرياً، مثل قولها في زيارة البطلة لإيران إنها كانت في عهد الشاه محمد رضا بهلوي «في أحسن فترات رخائها الاقتصادي وفي أحلك عصورها التعذيبية والقمعية. جاء الخميني بثورته الإسلامية فحرر المعتقلين وألبس إيران لباس الفقر والرجعية والتأخر. حاربوا أميركا وتابعيها جهراً وتعاملوا معها سراً».
ومن الجمل التقريرية أيضاً «تقول الأبحاث إن المثلية ليست مرضا نفسيا أو عقلياً، مشكلة المثليين أنهم يطالبون المجتمع والناس بحرية التعبير عن ميولهم وبالمساواة وبالاعتراف بهم وبوجودهم وبعدم التمييز الجنسي.. ولكنهم في الوقت نفسه يميزون أنفسهم عن سائر الناس بأعلام ملونة خاصة بهم وبمظهر خاص بهم وبحانات خاصة بهم وبشوارع خاصة بهم وبأغان خاصة بهم، فيحبسون أنفسهم في جيتوهات من صنع أيديهم، ثم يصرخون ويقيمون التظاهرات لكي يكونوا جزءا لا يتجزأ من المجتمع. ولكن كيف يريدون الانخراط في مجتمع هم أول كافر به؟ المثلية ليست ديانة لتقام لها معابد خاصة. والغيريون لا أعلام لهم تميزهم ولا حدود».