عزالدين شكـري يــرسم «باب الخروج» من «الدوامة»
دوامة ثورات، وساسة وعسكر و«إخوان» وسلفيون، وأجواء يشتبك فيها المعقول باللامعقول، وفي القلب منها بشر بمصائر مختلفة، تلك بعض ملامح رواية «باب الخروج، رسالة علي المفعمة ببهجة غير متوقعة» للدكتور عزالدين شكري فشير، التي لا تكتفي برسم عوالم تتماس مع مصر ما قبل 25 يناير 2011، وما بعده، بل تستشرف آفاقاً مستقبلية، وتفضح، مبكراً على الورق، نهازي فرص سرقوا دماء شهداء، وتاجروا بشعارات «العـيش والحـرية والكـرامة الإنسانية».
هل كان يحلم الروائي المصري وأستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية بالقاهرة، عزالدين شكري، أن يدل من بيدهم مقاليد الأمور في مصر بعد الثورة على «باب الخروج»، بعيداً عن الدهاليز والمسارب المتعرجة؟ هل كان يستشعر الدوامة التي تقترب، لذا حذر منها، طارحاً بعين الأديب الرائي خيارات، وليس نبوءات كما اعتبرها البعض، إذ تحققت بعض أحداث الرواية، وتماست بشكل كبير مع ما جرى في المحروسة، وما يجري في هذه اللحظة (فوضي عارمة، وصفقات سياسية، وصعود إخواني، ثم سقوط يفضي الى العودة، بعد استئثار شره بالسلطة).
فنيات
مقعد الكتابة.. أفضل عزالدين شكري فشير، روائي مصري يُدرّس العلوم السياسية في الجامعة الأميركية بالقاهرة. صدرت له خمس روايات: «مقتل فخرالدين» (1995)، و «أسفار الفراعين» (1999)، و«غرفة العناية المركزة» (2008)، التي رُشِّحت للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر العربية)، و«أبوعمر المصري» (2010)، ورواية «عناق عند جسر بروكلين» (2011)، التي وصلت القائمة النهائية للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر العربية) للعام نفسه. في ابريل 2011 عينته الحكومة الانتقالية في مصر أميناً عاماً للمجلس الأعلى للثقافة في مصر، إلا أنه استقال من المنصب بعدها بأربعة أشهر، مشيراً الى انه «يفضل مقعد الكتابة على مقعد السلطة». وللدكتور فشير عشرات من المقالات حول الأوضاع السياسية والاجتماعية في مصر والعالم العربي، منشورة بصحف ودوريات مصرية وعربية وألمانية وكندية وأميركية منذ عام 1987. كما نشر كتاباً بعنوان «في عين العاصفة» عن الثورة المصرية في 2012 يتضمن بعض مقالاته. تخرج عزالدين شكري في جامعة القاهرة عام 1987، وحصل على الدبلوم الدولي للإدارة العامة من المدرسة القومية للإدارة بباريس في 1992، وماجستير العلاقات الدولية من جامعة أوتاوا في 1995 عن رسالته في مفهوم الهيمنة في النظام الدولي، وبعدها حصل على دكتوراه العلوم السياسية من جامعة مونتريال عام 1998 عن رسالته حول الحداثة والحكم في النظام الدولي. كما عمل دبلوماسياً بالخارجية المصرية وبمنظمة الأمم المتحدة حتى أغسطس عام 2007، حيث تفرغ للكتابة والتدريس.
|
عدم إنصاف لرواية «باب الخروج» وكذلك لمبدعها، حبسها في زاوية الأحداث والنبوءات، وما استشرفته الرواية عبر رسالة بطلها الطويلة، وما وضعته من سيناريوهات مستقبلية صعبة، إذ يضيّع ذلك كثيراً من الفنيات التي حرص الكاتب عليها، ولم يغفلها من أجل توصيل رسائل تحليلية ما، أو توثيق أحداث بعينها. إذ اجتهد الروائي عزالدين شكري في صنع عوالم فنية خاصة، يتحكم في تلوينها سارد واحد ربما، لكنه يحاول أن يكون متعاطفاً مع الآخرين، يقلب شخصياتهم، ويحاول أن يتأملها ويعرضها من أكثر من زاوية، بعيداً عن وجهة النظر الأحادية التي لا ترى في البشر سوى أخيار على طول الخط، أو العكس شياطين بلا أي وجوه إنسانية.
يقول سارد «باب الخروج» في لحظة حساب ذاتية «أدركت الى أي مدى كانت حياتي فارغة من المعنى. محمود بشير يعيش اللحظة ويفعل ما يشاء، حين يشاء، يخون سالي القصبجي أو يعشقها، يهجرها أو يعود اليها، يدير مؤسسة تجارية أو يعمل بالسياسة. أي شيء يدخل على قلبه السعادة يفعله، دون أن يشغل باله بأفكار وحسابات معقدة. في النهاية، سيتمدد على فراش راضياً عن حياته الزاخرة التي فعل فيها ما أراد. عزالدين يسير كالقطار على قضبان تأخذه من محطة الى التي تليها: من باحث الى أستاذ سياسي، لديه مشروع محدد يعمل عليه ويبنيه خطوة خطوة. وحين يصل الى المحطة النهائية سيكون سعيداً بالمسافة التي قطعها والأهداف التي حققها. أما أنا، فليس لحياتي معنى، لا أنا أجري وراء السعادة المباشرة ولا لدي هدف أو شيء أبنيه. لم أفعل شيئاً عبر أربعة وأربعين عاماً سوى الترجمة وأخذ الملاحظات، وحين تحين ساعتي لن أعرف فيم أنفقت عمري. لماذا لم أسائل نفسي قبل هذه الفترة؟ ربما بسبب الانغماس في مهام وظيفتي المهمة التي، كما قلت لك في بداية رسالتي، تعفيك أهميتها من التفكير في معنى ما تفعله. وحين بدأت أفيق من ضياع العام الماضي، ولم أجد ذلك الغطاء الذي أعفاني من الأسئلة طوال هذه السنوات، وجدت نفسي أمام نفسي، وأمام حياة بلا معنى ولا هدف».
حلم
اهتمت رواية «باب الخروج» بالقادم في مصر، وما حدث بعد ثورة 25 يناير، توقعت أن تلك الثورة لن تموت، ستعقبها موجات أخرى، ترفع شعارها أحياناً، وتحيد عنها أحياناً أخرى، تأخذ في طريقها بعض المنتفعين، وتدهس تحت عجلاتها آخرين، يحاول بعض المؤمنين بها البحث عن «باب الخروج»، يجدفون وحدهم، فيصيبون ويقتربون من تحقيق بعض الأهداف، لكن تتكسر أحلامهم في أحيان أخرى، لتقصيهم بعض الوجوه القديمة، التي تتسلم الراية من جديد، وترسم الرواية مسارات متعددة لما ستراه سيتحقق للأعوام المقبلة في عمر الثورة، واللافت أن الكاتب عزالدين شكري، يحرص على تأريخ الأحداث، وذكر زمانها بالتحديد، كما يراها خيال الروائي، ويظل يرسم صراعات وأحداثاً كثيرة تعصف بالبطل، وكذلك بـ«حرافيش الثورة» حتى عام 2020، الذي يسطر فيه بطل الرواية حياته في رسالة يتركها لولده.
كما حلم الثورة وواقعها، تبدو حكاية بطل «باب الخروج»، سريعة التقلبات، ما إن تهدأ حتى تنقلب رأساً على عقب، تأخذ مسارات مختلفة، فالسارد وجد ذاته في قلب 25 يناير مصادفة، وربما كان هو من أبعد الناس، لأسباب كثيرة، على رأسها تركيبته النفسية، وعمله في مكان حساس (مترجم في رئاسة الجمهورية، تدرجت به الحال ليصل الى المترجم الخاص للرئيس السابق)، لكنه يجد ذاته في قلب الحدث، مراقباً ومشاركاً وفاعلاً بشكل مختلف ربما، الا أنه كان شاهداً وموثقاً، حتى لصفقات كانت تجري بعيداً عن الصورة الظاهرة للعيان في الميادين، حيث كانت الملايين محتشدة.
ببوح شديد، يحاول راوي «باب الخروج» أن يعرض تفاصيل حياته لابنه في رسالة، يحدثه عن يوميات الأب، منذ أن كان طفلاً، وبلا أي تحرج يفتح قلبه، يحكي له عن حبه الأول، وكيف ارتبط بفتاة صينية لم يستطع الارتباط بها في ما بعد، وتركها بعد معارضة الأسرة، لاسيما أنه كان موعوداً بوظيفة مرموقة، خلال عمل أبيه ملحقاً عسكرياً في السفارة المصرية بالصين.
يروي الأب في الرسالة كثيراً من التفاصيل الحياتية البسيطة التي كانت معادلاً لأحداث كبرى، كانت تشهدها بلاده، وهو ما صنع تشويقاً ما على العمل، وخفف من جفاف كان يهدده في حال الإغراق فيه، من دون الالتفات الى تلك المشاعر الإنسانية، والتفاصيل الحياتية الصغيرة التي تحتفل بها رواية عزالدين شكري «باب الخروج»، التي صدرت العام الماضي عن دار الشروق المصرية، في 483 صفحة، وحققت مبيعات كبيرة، ووصلت الى قائمة الروايات الأكثر مبيعاً في مصر، كما ظهرت منها أخيراً طبعات جديدة.
ومن أجواء العمل: «حتى ندا أمك بدأت هي الأخرى الحديث عن السفر والاستقرار خارج مصر. في البداية ظننتها تمزح، لكن هذا المزاح تكرر وتطور. كانت قلقة، فمصر في رأيها يجري تسليمها لحفنة من المتطرفين والمهووسين، وهي لا تريد الحياة وسط هذا الجنون، لا تريد شيوخاً يقولون لها ما يجب أن تفعله وما لا يجب أن تفعله، ولا رجالاً يوقفونها في الطريق أو حتى ينظروا اليها نظرات استهجان. كانت تقول لي إنها تشعر بالأوكسجين يتناقص من الجو، ولا تريد أن تعيش وسط هذا الجو الخانق، ولا مجرد الاستماع الى الكلام الفارغ والمسيء الذي تسمعه في وسائل الإعلام كل مساء، لا تريد ذلك. وقطعاً لا تريد لك أنت، الذي تخطو لعامك الحادي عشر، أن يصيبك هذا الهوس بسوء. حاولت كثيراً التهدئة من روعها، ثم لجأت الى أبيها لطمأنتها، لكنه في الحقيقة زاد الطين بلة، فالرجل الذي كان قد تخلى عن تفسير الثورة بأنها مؤامرة من الإخوان المسلمين، وأقر بأنها تحولت الى ثورة شعبية حقيقية ضد الظلم والفساد الذي نعرفه جميعاً، عاد الى النغمة القديمة بحلول العام الثاني للثورة. (شباب الثورة الأنقياء) أصبحوا (عيال تافهين وصايعين) ولا يفقهون من أمرهم شيئاً، مضللين ومفتونين بالأضواء والتلفزيونات وبعضهم مأجور لجهات أجنبية، أما (الإخوان) فسائرون في مؤامرتهم التاريخية لإسقاط الدولة، وإما أن يلتفت الشعب الى المؤامرة ويحبطها، وإما سيضيع البلد».