رحلة المسيري
«سيرة غير ذاتية غير موضوعية».. جزء من عنوان مراوغ اختاره المفكر الراحل عبدالوهاب المسيري لكتابه «رحلتي الفكرية.. في البذور والجذور والثمر.. سيرة غير ذاتية غير موضوعية»، إذ يبوح الكاتب المصري بالكثير من فصول حياته، بل ويعرض لتفاصيل شديدة الخصوصية عن مسيرة طويلة.
وعي مبكر تشكل لدى المسيري وهو بعد في السابعة من العمر، إذ كان هو وكثيرون من أبناء جيله يفكرون في تحرّر مصر من قبضة المحتل الإنجليزي، ويروي أنه بعد خروجهم من المدرسة كانوا يلوحون للجنود الإنجليز بعلامة النصر وهم في القطارات، فإذا خرج الجنود لتحيتهم يرمونهم بالحجارة ويجرون ويختفون في حواري دمنهور (دلتا مصر)، وكوّن هو وأصدقاؤه جمعية سرية لمحاربة الإنجليز، واشترك في مظاهرات الطلبة التي خرجت للتنديد بممارسات الملك فاروق في أوائل الخمسينات.
يحكي المسيري الذي غاب في 2008 أنه حين طلب منه ومن زملائه مدرس مادة الإنشاء أن يكتبوا موضوعاً عن «حديقة المنزل»، كتب الفتى المسيري أن «منازل الفقراء ليست لها حديقة، وأن أطفالهم لا يعرفون معنى الحدائق، ويعيشون بين أكوام القمامة»، فكانت الدرجة التي نالها من المعلم «صفراً»، بل وأبلغ المعلم أهله بأن لديهم «ابناً شيوعياً»، رغم أن الفتي كان حتى تلك الآونة لا يعلم عن الشيوعية شيئاً.
بجد يشبه الهزل، يحكي المسيري عن عادة حبه للأشياء القديمة، التي ورثها عن أمه، فهو يستخدم ورق الدشت للكتابة مرتين، مرة على الوجه وأخرى على الظهر، ويرتدي الملابس حتى تبلى تماماً. ويضيف «تشكو زوجتي من أن بعض الفقراء ممن تعطيهم ملابسي القديمة يقولون: (بلاش والنبي حاجات البيه)، لأنهم لا ينتفعون بها على الإطلاق. وزوجتي توافقهم بطبيعة الحال، إذ ترى أن ملابسي القديمة بالكاد تصلح لأعمال النظافة».
يستطرد الدكتور المسيري طويلاً في الحديث عن مرحلة البذور، ونشأته في المجتمع التراحمي كما يطلق عليه، في مقابل مجتمعات أخرى سينتقل إليها في مستقبل حياته، من بينها نيويورك ومانهاتن وغيرهما، ويقول «لقد تعلمت من المجتمع التراحمي أهمية الإنسان ككائن حر نبيل وأهمية العواطف وأهمية الإفصاح عنها، ولعل هذا ما يفسر حبي لأفلام المخرج الياباني أكيرا كيروساوا، فهي عامرة بشخصيات ملحمية لا تتردد في التعبير عن مشاعرها وتعيش حياتها على مستوى يليق بأبطال الملاحم.
من القصص الطريفة أيضاً في سيرة المسيري، محاولته اقتناء الذهب وتحويل أمواله السائلة إلى معدن أصفر، وقرأ كثيراً عن الأسواق العالمية واضطرابات عمال المناجم، وعكف على دراسة الأمر بشكل علمي، لكنه فوجئ بخساراته الكبيرة، إذ إن الأمر يخضع لمعايير أخرى تغيب عنه، ما جعله يكتفي بالقليل من الخسائر، ويتراجع عن «الحمى الذهبية» كما يصفها.
ويلفت المسيري في كتابه الذي يزدحم بالأفكار والأسماء والذكريات والصفحات كذلك (أكثر من 500 صفة) إلى ذوقه المختلف، فهو مثلاً، على خلاف كثيرين، لم يتعلق بصوت أم كلثوم، بل كان من أوائل من اكتشفوا فيروز، وقال «كنت أعاني أشد المعاناة بسبب ذلك، إذ كانت أغانيها تذاع في ساعات غريبة، فكان علي إما أن أسهر، وإما أن أستيقظ في الصباح الباكر لسماعها».
قصة ذاتية أخرى يرويها المسيري في كتابه بخفة دم عفوية، وهي عن كيفية ارتباطه بزوجته الدكتورة هدى حجازي، إذ كان حينها عضواً في الحزب الشيوعي المصري، فطلب المشورة من مسؤولي الحزب، فنصحوه بالابتعاد عنها لأنها «برجوازية، والزواج من مثلها يسبب مشكلات كثيرة». لم يقنع المسيري برأي مسؤوليه الحزبيين، وهرع إلى أمه، السيدة البسيطة التي سألته: «هل يشعر قلبك بالفرح حينما تراها؟»، وبالفعل وجد في سؤال أمه طاقة النور، وأتم مشروع ارتباطه بالدكتورة هدى، وخلال فترة الخطوبة، كان المكان المفضل لهما للقاء هو الدور العلوي في ترام الرمل الذي كان يطل على الإسكندرية كلها، وكذلك البحر، كما روى المسيري.
تعرف صاحب موسوعة تاريخ الصهيونية في جامعة كولومبيا إلى المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد الذي كان حينها على وشك الحصول على الدكتوراه. وعقب عودته إلى مصر خاض المسيري غمار العمل الجامعي، وقدمه الراحل الدكتور أسامة الباز إلى محمد حسنين هيكل الذي عينه في مكتب المستشارين التابع لمكتبه حينما كان هيكل وزيراً في الحقبة الناصرية. وكانت العلاقة بين هيكل والمسيري «علاقة فكرية وشخصية عميقة تتجاوز الاعتبارات السياسية».
طلب المعلم من التلاميذ أن يكتبوا موضوعاً عن «حديقة المنزل»، فكتب الفتى المسيري، أن «منازل الفقراء ليست لها حديقة، وأن أطفالهم لا يعرفون معنى الحدائق، ويعيشون بين أكوام القمامة»، فكانت الدرجة «صفراً»، واتهاماً بالشيوعية من قبل معلمه.