مايرون أولبرغ يترجم قاموس عالم صامت

«يدا أبي».. مستودع ذكريات

صورة

وسط عالم صامت، فتح الكاتب الأميركي مايرون أولبرغ عينيه ليجد أماً وأباً يتواصلان بقاموس من الإشارات، تومئ به الأيدي، وكان لزاماً على الطفل الذي ولد معافى من صمم والديه، أن يصير واسطة بينهما وبين العالم الذي يسمع ويتكلم، لكنه - أي العالم - كان بلا قلب أحياناً، لاسيما إذا عثر على زوجين مختلفين لا يصرخان، ولا يتشاركان مع البشر في ضجيج الكلمات الفارغة، والأصوات المفرغة من المعاني والمشاعر.

استعادة الصوت المفقود

لا تبدو مذكرات مايرون كئيبة أو سوداوية الصفحات والمزاج، إذ يوجد رضا بين الزوجين يلوّن يوميات حياتهما، خصوصاً بعد أن رزقا بابنهما الأول، واطمأنا إلى أنه لن يعاني مثلهما في التواصل مع الآخرين، بل سيكون صوتهما المفقود منذ أن ولدا، وسيكون بمثابة الهدية التعويضية لهما. وكما تتحدث المذكرات عن جانب من سيرة الأسرة «الصامتة»، تتطرق إلى العالم الصاخب، وأثر الحرب العالمية الثانية في العائلة، وكذلك يسرد المؤلف بخيال روائي فصولاً من حياة عدد من الشخصيات، بعضهم قريب كأخواله، وبعضهم كان قريباً وابتعد كالحبيبة الأولى، وولد الحي الشقي الذي لم ينجُ من أذاه أحد، خصوصاً ابن «الأطرشين» الذي صار فناناً وكاتباً بمساعدة والديه، مَن أرشداه إلى عالم بصري، مرة بملازمتهما للكتاب، ومرات بتواصلهما الإشاري معه.

في مذكراته «يدا أبي» التي صدرت عن مشروع كلمة للترجمة التابع لهيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، يسرد الابن مايرون جانباً من سيرته وسيرة والديه، لويس أولبرغ (1902 ــ 1975)، وسارة أولبرغ (1906 ــ 2001)، كأنه أراد ألا تنتهي مهمته التي بدأها وهو طفل صغير مع أبويه، عندما كان يتحتم عليه أن يترجم إشارات والديه الأصمين إلى الآخر، وبالعكس ينقل لهما بأمانة ما يتحدث به الغير، متحملاً سخافات كثيرين، ومتحلياً بخيانات المترجمين المقصودة أحياناً.

«أكثر ما يتجلى بوضوح في ذاكرتي هما يدا أبي. نطق أبي بيديه، كان أصم. كان صوته في يديه. ويداه مستودع ذكرياته»، بهذه الكلمات يستهل أولبرغ مذكراته، مكرراً لفظة اليدين كأنهما وجه الأب الذي يتملى فيه الابن، ويتابعه بحرص شديد، وعلى امتداد الصفحات تتجليان وتبرزان، لذا فالأب، عامل الطباعة في إحدى الجرائد، شديد الحرص كل مساء، عقب عودته من عمله على تنظيف اليدين، وإزالة كل ما علق بالأصابع من أحبار، كي يتواصل مع الابن بشكل صحيح، ولا يفوت الصغير أي إشارة جمالية من أبيه، فثمة علاقة شديدة الخصوصية بين الاثنين، لم تقتصر على مجرد كون الصغير وسيلة تواصل الأب مع العالم، فلدى الأخير الكثير الذي يحرص على توصيله، حباً لولده ولغة بصرية مغايرة.

يروي صاحب «يدا أبي» التي نقلها إلى العربية، المترجم مازن معروف، في 294 صفحة أن مسؤوليات الطفولة لم تنته عند والديه، إذ رزقت الأسرة بطفل ثان، لديه أزمة من نوع مختلف، فالأخ الذي ولد معافى من إعاقة الأبوين، أصيب بنوبات صرع في سنوات عمره المبكرة، ولأن الوالدين كانا فاقدين للسمع، وجب على مايرون أن يراقب أخيه الصغير، خصوصاً ليلاً، وتعوّد أن يكون نومه خفيفاً، كيما ينقذ أخاه إذا هاجمته نوبة صرع ليلاً، فيعض لسانه وينزف إذا لم ينجده أحد، وغالباً ما كانت تقع تلك المسؤولية على مهمة المؤلف.

تختصر مذكرات أولبرغ الكثير من هموم فئة الصم والبكم، خصوصاً في ذلك الزمن، قبل أن تلتفت إليهم الجمعيات والمؤسسات، وتعمل على التوعية بحقوقهم. ويشير المؤلف إلى أنه تحمل سخافات بالجملة من جيران الأسرة، وكذلك من زملاء المدرسة، ومن بشر عاديين في القطارات أو على الشواطئ، فهو معروف في الحي بابن «الأطرشين»، وثمة سؤال حاضر دائماً: كيف تتعامل مع هذين الوالدين الأبكمين؟

يقول مايرون عن أحد تلك المواقف: «أفضل ما علمني أبي إياه هو ألا أخفي شيئاً عنه، أن أنقل إليه العالم السمعي كما هو، دون أي حذف أو إضافة، مهما كلف الأمر. علي الآن أن أخبره بما قال لي الجزار صراحة. أشرت: قال الرجل إنك أخرس، وقد أحسست كأنما هناك فرن يهدر في جسدي ذي الأعوام الستة، متيبساً بتقرّح الجلد. إنها المرة الأولى التي أسمع فيها أحداً يصف أبي بالأخرس»، وعندما أمره الأب أن يوصل شتيمة قاسية للجزار، لم يترجم الابن ذلك، وفهم الأب، وعندما خرجا من المحل قال الأب: «أعرف أنك لم تخبر الجزار بما أمرتك به.. يمكنني معرفة ذلك بالنظر إلى وجهك. لا بأس، أفهم الأمر. كنت محرجاً. ليس عدلاً أعلم، أنا في العالم الأصم، وأنت في عالم حاسة السمع».

يشار إلى أن مايرون أولبرغ حاز جوائز عدة، ومن بين مؤلفاته: «التحليق فوق بروكلين»، و«الكلب الطائش ماكغرو»، و«ليمويل الأبله»، و«عامل الطباعة».

 

 

تويتر