أنيس منصور.. ذكرى الغياب

قبل أيام، مرت الذكرى الثانية لرحيل أنيس منصور، صاحب النتاج الغزير، والكاتب الذي صنع «خلطة غريبة»، مزجت ما بين الأدب والصحافة والفلسفة والنجومية والمواقف الملتبسة، واللامعقول أحياناً.

تميّز قلم منصور الذي رحل في 21 أكتوبر 2011 بحالة من السيولة التي أشبعت حاجات قراء، فيما لم ترق لآخرين، إذ كان قادراً على تسطير أكثر من عمود يومي في صحف عربية عدة، ربما تجاوزت السبع أحياناً، إضافة إلى كتب شبه دورية، فثمة قرّاء ينتظرون ما يجود به صاحب «حول العالم في 200 يوم».

منصور الذي ولد في عام 1924، بحث منذ صغره عن الحكمة بعيداً عن الكتب، اعتبر الفلسفة موجودة لدى أناس يبدون في الظاهر عاديين، لا يشعر بوجودهم كثيرون، لكنهم أصحاب تجارب وشجاعة، ولذا تحدث طويلاً عن أمثال هؤلاء، ولم يكتف بالمثقفين والفلاسفة الكبار أمثال عباس محمود العقاد وجان بول سارتر. أطنب الراحل في الحديث عن ذكرياته عن أمه وأبيه في أكثر من مقالة وكتاب كالخواجة اليوناني مخالي، صانع البهجة، وكذلك أبو آدم الحداد، وشخصيات كثيرة تناول طرفاً من سيرتها ومواقفها.

اعتبر صاحب «مواقف» والده (محمد منصور)، في مقدمة فلاسفته المقربين، ويروي أن أصدقاء الأب من القرويين البسطاء عندما كانوا يسألونه: ما أخبار الدنيا، وماذا فعل هتلر؟ وفي داخلهم حنين وأمل إلى ذلك الزعيم النازي الذي سيهزم إنجلترا، التي كانت تحتل مصر حينها، ولذا تعاطف قطاع من المصريين مع هتلر، معتقدين أنه سيكسر شوكة الإنجليز، لكن والد أنيس منصور كان على النقيض من ذلك، إذ اعتبر الزعيم الألماني جزاراً، غير أن «الجزار يذبح البهائم وهو يذبح البشر، والجزار إذ كان يقتل بسكين صنع في مصر يشبه الذي يذبح بسكين صنع في شيفلد بإنجلترا، أو في ألمانيا».

اعترف أنيس منصور بأنه فتن بكتاب «الف ليلة وليلة» مبكراً، طالعه وهو فتى أكثر من مرة، وحفظ الأشعار الوادرة فيه، لاسيما التي تتحدث عن العلاقة بين المرأة والرجل، والتي تضم أوصافاً حسية، ولم يصارح أحداً في تلك المرحلة بذلك: «أعدت قراءة هذا الجزء من (ألف ليلة وليلة) مرات كثيرة، وكأنني أنظر من ثقب الباب إلى عالم غريب عجيب، عالم لم أره ولم أسمع عنه، عالم سحري، ولكنه في الوقت نفسه عالم إنساني مثير، فالرجال يقولون شعراً والنساء، وهناك رقص وغناء.. ومعارك وعفاريت وشياطين، حتى العفاريت تقول شعراً».

قرأ أنيس منصور ذلك الكتاب وعدداً آخر من الكتب كان يخبأها، بعيداً عن رقابة أمه التي كانت تفضل أن يرتبط ولدها بالكتب المدرسية فحسب، كيما يتفوق على أقرانه، ويحافظ على مركزه الأول، ويصير وزيراً، كما كانت تتمنى والدته.

حاول منصور أن ينتسب إلى الغجر الرحل، تعلق بنقوش الحناء على أيدي ووجوه نسائهم، وفتن بخيام هؤلاء الذين لا يستقرون في مكان. وتمنى أن يكون كابن بطوطة الذي طالع رحلاته، وتعلق بالبلدان التي زارها وتعرف إلى عاداتها، وأساطير أهلها: «عندما ذهبت إلى جزيرة سيلان (سريلانكا) صعدت إلى قمة آدم، حيث وقف ابن بطوطة، وحيث نزل أبونا آدم من السماء، هكذا تقول الأسطورة، فوضع قدماً في سيلان وقدماً في عدن باليمن».

كما حلم الراحل بأن يصير بحاراً كي يتمكن من الدوران حول العالم، ولعله حقق ذلك لكن بشكل آخر، ووصف رحلاته المكوكية في كتابه الأشهر «حول العالم في 200 يوم».

وصف أنيس منصور في كتاباته دوائر الخوف التي أحاطت به منذ نعومة أظافره، ويبدو أنه كان يحاول التحرر منها بالكتابة حتى ولو في عمر متأخرة، ولذا آثر السفر والاختلاط بثقافات مختلفة في رحلات طويلة حول العالم، لعله بذلك يخرج من العزلة التي أحاطت به، خصوصاً في طفولته المبكرة التي كانت في الريف، في ظل غيابات الأب الطويلة، وخوف الأم على ولدها من «الهوا الطاير».

تمرد الكاتب الراحل على مقعد المعيد في قسم الفلسفة بكلية الآداب في الجامعة، إذ اجتذبته «نداهة صاحبة الجلالة»، وانضم إلى «أخبار اليوم»، المؤسسة الصحافية العريقة، ليصير واحداً من كبار الكتاب.

بحث‭ ‬أنيس‭ ‬منصور‭ ‬منذ‭ ‬صغره‭ ‬عن‭ ‬الحكمة‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬الكتب،‭ ‬رأى‭ ‬أن‭ ‬الفلسفة‭ ‬موجودة‭ ‬لدى‭ ‬أناس‭ ‬يبدون‭ ‬في‭ ‬الظاهر‭ ‬عاديون،‭ ‬لا‭ ‬يشعر‭ ‬بوجودهم‭ ‬أحد،‭ ‬لكنهم‭ ‬أصحاب‭ ‬تجارب‭ ‬وشجاعة،‭ ‬ولذا‭ ‬تحدث‭ ‬طويلاً‭ ‬عن‭ ‬أمثال‭ ‬هؤلاء،‭ ‬ولم‭ ‬يكتف‭ ‬بالمثقفين‭ ‬الكبار‭ ‬من‭ ‬أمثال‭ ‬عباس‭ ‬محمود‭ ‬العقاد‭ ‬وجان‭ ‬بول‭ ‬سارتر‭.‬

 

الأكثر مشاركة