طه حسين..مسيرة تحدّت العتمة
أقصى أماني الأسرة كانت أن يحفظ الفتى الضرير طه القرآن الكريم، كي يستطيع الالتحاق بالأزهر، فيصير فقهياً، وإن وقف حظه عند تلاوة القرآن على المقابر وفي المآتم فلا ضير، لكن طه حسين تمرد على ذلك، وحلق بأحلامه بعيداً.
سيرة من نور تحدت درباً طويلاً معتماً، في زمن صعب، تلخصها حياة عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، الذي تحيي الأوساط الثقافية في مصر والعالم العربي حالياً ذكرى رحيله الأربعين (غاب في 28 أكتوبر 1973)، مستعيدة قيماً وأدباً ومواقف أرساها صاحب بصيرة تحدت كل الصعوبات، ومحت من قاموس صاحبها كلمة «العمى».
كانت أقصى أماني الأسرة أن يحفظ الفتى الضرير طه القرآن الكريم، كي يستطيع الالتحاق بالأزهر، فيصير فقهياً، أو قاضياً شرعياً، وإن وقف حظه عند تلاوة القرآن على المقابر وفي المآتم فلا ضير، كما حال كثيرين ممن هم على شاكلته. لكن كانت للفتى حكاية أخرى، إذ تمرد على أسوار أحلام الأهل، وكذلك أحوال التعليم في الأزهر حينها، ووصل إلى واحدة من أعرق جامعات العالم، وهي السوربون بفرنسا.
لم تكن عبارة «أقبل يا أعمى» التي قالها أحد المشايخ للصبي لحظة امتحانه للقبول في الأزهر، الشيء الوحيد الذي صدمه، إذ توالت سلسلة متاعب فصلها بأسلوبه العذب عميد الأدب العربي في كتابه «الأيام»، الذي يعد بوحاً مبكراً، وسيرة ذاتية أثرت في أجيال من المثقفين والقراء العاديين، وفتحت باباً في الأدب العربي.
فوجئ الصبي بما يدرسه في الأزهر، حاول أن يبحث عن شيء مختلف، طاف بين الأعمدة والحلقات الدراسية، لكن لم يعثر على بغيته، إذ لم تصل إلى أذنيه، التي يسمع بهما ويرى، غير متون وشروح تراثية، وطرق تلقين اعتبرها ذلك السابق لزمنه لم تعد تناسب العصر، ولا تنبئ بمستقبل زاهر. فتحت الجامعة المصرية أبوابها، فانتسب إليها الشيخ طه، دفع جنيهاً كاملاً وفّره من طعامه وشرابه، لكن رأى أن جوع المعدة مقدور عليه، لكن جوع العقل يترك فراغاً في الوجدان لا يمكن تعويضه.
افتتن طه بالجامعة وطرق التدريس، فوجئ بمواد لم يصادفها من قبل في الأزهر، فثمة علوم مغايرة، وأساتذة مصريون وأجانب يحاضرون عن الحضارة المصرية القديمة، وأعلامها، ويشرحون الصلة ما بين اللغة المصرية القديمة واللغات السامية، منها العربية. شق طه حسين طريقاً جديداً وسط أصحاب الطرابيش، لكنه لم يودع أهل العمائم، سعى للجمع بين الحسنيين، لكنه فوجئ بتعنت مشايخه في الأزهر، إذ رسب في الامتحان، وسط تعمد من اللجنة التي كانت تعرف الفتى المتمرد جيداً. لم تنته الحكاية عند «الرسوب»، إذ فتح طه حسين لنفسه سبيلاً آخر أرحب، إذ تفوق في الجامعة، وحاز صيتاً كبيراً، لاسيما بعد حصوله على دكتوراه في بحث عن قدوته في الحياة أبي العلاء المعري، واحتفت الساحة الثقافية حينها بأول طالب يحصل على هذه الشهادة من الجامعة المصرية، لاسيما أنه فاقد للبصر، وظلت التكريمات المصرية والعالمية تتوالى على مبدع «المعذبون في الأرض»، و«حديث الأربعاء»، و«دعاء الكروان» القصة التي تحولت إلى فيلم من كلاسيكيات السينما المصرية، قامت ببطولته الفنانة فاتن حمامة.
تنبأ صاحب «الجريدة» أحمد لطفي السيد، بأن طه حسين سيكون «من مصر موضع فولتير من فرنسا»، وقال «أنت أبو العلائنا»، وانطلق عميد الأدب العربي يكتب المقالات، ويحفر لنفسه مكانة خاصة «وأثناء الأعوام الـ10 الأولى من كتابته في الصحف لم يكتب إلا حباً في الكتابة ورغبة فيها، لم يكسب بها درهماً ولا مليماً».
وتعرف إلى كثيرين من الأدباء والمثقفين، التقى مي زيادة، ووقع له ما وقع لعشرات المريدين سواه، إذ سحر بشخصية «الآنسة مي»، كما سماها في «أيامه»، لكن انتهت القصة عند ذلك اللقاء، بينما كانت له مع المرأة شأن آخر، لاسيما بعدما حصل على «توأم روحه» وزوجته في ما بعد بفرنسا، خلال بعثته هناك، إذ تحولت القارئة مع الشاب الضرير إلى حبيبة من طرف واحد أولاً، ثم ملأ الحب قلب الفتاة الفرنسية، وكان الزواج ومسيرة الحياة المشتركة التي روتها سوزان طه حسين في كتابها «معك». لم يكن طريق طه حسين إلى فرنسا مفروشاً بالورود، إذ حارب من أجل هذه البعثة، وأرسلت بخطابات عدة إلى الجامعة المصرية كي توافق على ابتعاثه لكنه جوبه بالرفض، بداعي «فقدان البصر، وعدم إجادته للفرنسية»، لكنه استطاع تذليل ذلك، فانتسب لمدرسة تعلم اللغة الفرنسية، وطلب من الجامعة أن تمنحه الراتب نفسه الذي تمنحه لأقرانه، وسوف يتحمل هو مسؤوليات مرافقه، وبالفعل كان لطه حسين ما أراد، وذهب إلى فرنسا، وحاز أعلى شهاداتها، وعاد ليكتب فصولاً جديدة في مسيرتها الطويلة مع الكلمة، وكذلك المعارك الثقافية، والسياسية أيضاً.