نجم شيّعه «الورد اللي فتح في جناين مصر» ووجوه شعبية غير رسمية. أ.ف.ب

«الفاجومي» ومشهد أخير يختصر حياة

مشهده الأخير يختصر حياته، يشبه فصولها الحرة، محمولاً على أكتاف شباب، تشيعه وجوه آتية من بطون الحواري والمساكن الشعبية، كانت تناديه «عم أحمد»، مغطى بـ«كوفرته» ربما نسجتها أنامل عمال المحلة ممن عاش أحمد فؤاد نجم يمجد عرقهم ونضالهم، خلا موكب وداع الشاعر المصري من «الطنطانات والإعلانات»، وحملة الأبواق، وأصحاب الحظوة الرسمية، ممن يتقدمون جنازات مداحين السلاطين.

حمل خبر غياب «أبوالنجوم» صدمة لمحبيه، ممن ظنوا أن شاعرهم «الشاب الثمانيني» لن يرحل قبل أن يطمأن على «بهية»، وسيصمد حتى تصل سفينتها إلى بر السلامة، لكنه كالعادة فاجأهم، لكي يضع نقطة في آخر الصفحة، ليستريح صاحب مسيرة بدأت في 22 مايو 1929، واستمرت إلى الثالث من ديسمبر 2013.

«بهية ولّادة»

بيقين غريب، كان يتحدث عن التغيير الآتي من بعيد، بشّر الشاعر الثمانيني أجيالاً يائسة بأن «بهية ولّادة»، وحينما حصلت ثورة 25 يناير وسرقت، ظل يهب الأمل لكثيرين، ويقول إن موجة ثانية مقبلة، وبالفعل صدق حدس الراحل أحمد فؤاد نجم.

رحل «الفاجومي» لكن ستظل سيرته مفتوحة، وستبقى قصائده مرفوعة في ميادين الحرية، ترددها أجيال جديدة، و«الورد اللي فتح في جناين مصر» ، وتستدعيها حينما تريد أن تعلن رفضها لمستبد.

لم تختلف حياة أحمد فؤاد نجم عن أشعاره، عاشها «الفاجومي»، كما روى في سيرته الذاتية، حراً؛ بالطول والعرض كما أراد، وكأنها أكثر من حياة، مليئة بمشاغبات 84 عاماً، تماست مع هموم وطن، كانت في القلب منه في لحظات الألم والأمل والجرح والفرح، ودفعت الثمن اعتقالاً وسجناً ومطاردة أحياناً، ولم تتاجر بذلك، أو تدّعي أنها تنتظر ثمن النضال، إذ ظل العم أحمد حتى نهاية حياته يعيش في مساكن الزلزال بمنطقة المقطم بين المهمشين، عصياً على الترويض، ولم يفلح معه سيف المعز ولا حتى ذهبه، وأعلن مواقفه الجريئة حتى نهاية المشوار.

في سيرته الذاتية «الفاجومي» التي تقع في أكثر من 500 صفحة، يرسم نجم، صورة كاملة لحياته، يضعها بين يدي قارئه، يكشف عن الكثير من التفاصيل، يبدأ من بعيدٍ، من لحظة الميلاد، وأغاني الأم، وهو في المهد، والحكايات التي كانت ترويها الأم «هانم» التي تزوجت وهي في الـ13 من العمر، من ابن عمها عزت نجم، ورزقت بالعديد من الأبناء، من بينهم أحمد فؤاد الذي فتح عينيه في «عزبة أبونجم» التي تبعد عن مدينة الزقازيق (دلتا مصر) بنحو 22 كيلومتراً.

أودع الصغير ملجأ للأيتام، بعدما رحل الأب، ونجم مازال في السادسة من العمر، وقضى في ذلك الملجأ نحو 10 سنوات، وكان من بين زملائه حينها، الفتى عبدالحليم شبانة الذي صار في ما بعد أشهر مطرب في مصر، العندليب عبدالحليم حافظ. خرج نجم من الملجأ وعاد إلى مكان الأسرة، لكي يعمل «باليومية» في الحقول، وراعياً للبهائم. يعرف الحب للمرة الأولى، يجري لسانه بكلمات لا يدرك هل هي زجل أم شعر أم ترجمة لعشق أطلقته عيون إحدى الفلاحات اللواتي كن يعملن معه. تعلق بالأشعار من مواويل «الأنفار» في الغيطان، وكذلك من أغنيات أمه وحكاياتها. تضيق القرية بعد ذلك بالفتى، ينتقل إلى أكثر من مكان في مصر، ويشغل مهناً مختلفة، ويعمل في معسكرات الإنجليز بمدن قناة السويس، ويشارك في إضراب العمال الوطنيين، وينتقل بعدها إلى وظيفة بوسطجي في مصلحة البريد بالقاهرة، وعاملاً في ورش النقل الميكانيكي. يدخل أحمد فؤاد نجم السجن، في قضية تزوير أوراق للحصول على مبلغ ما، ووراء قضبانه يتشكل من جديد، يعثر على الشاعر الشعبي الذي ملأ صيته بعد مصر والعالم العربي، يصادف في السجن أناساً يغيرون نظرته لكل شيء، يكتب أول دواوينه «صور من الحياة والسجن»، ويفوز في مسابقة، وينشر ذلك في جريدة «الأهرام»، وتكتب مقدمة الديوان الناقدة الراحلة سهير القلماوي.

يخرج عام 1961 بعد ثلاث سنوات، ويتم تعيينه موظفاً في منظمة التضامن الأفروآسيوية التي كان يترأسها الروائي يوسف السباعي، يلتقي بعد ذلك نجم برفيق دربه الشيخ إمام عيسى (1918 ــ 1995)، يبدعان معاً، ويشكلان ظاهرة في الساحة الثقافية والثورية في مصر، ومن قلب حوش قدم في القاهرة المملوكية تخرج كلمات نجم منغمة بألحان الشيخ إمام لتتغنى بها كل مصر، وتنتشر حتى تؤرق السلطة التي سعت للتفريق بين هذا الثنائي، كما فصل نجم في مذكراته «الفاجومي» التي صدرت طبعة جديدة منها أخيراً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.

الأكثر مشاركة