«الدفتر الكبير».. تداعيات الحرب لا تستثني أحداً

لا تستثني تداعيات الحرب أحداً، تصل إلى الجميع، لا تفرّق بين صغير وكبير، عسكري ومدني.. ربما هذا ما تريد إيصاله الكاتبة المجرية أغوتا كريستوف في روايتها «الدفتر الكبير» التي نقلها إلى العربية أخيراً المترجم المغربي محمد آيت حنا.

تحيل الحرب التوأمين الصغيرين بطلي رواية «الدفتر الكبير» إلى ما يشبه «الشيطانين الخبيثين البريئين في الآن ذاته»، تجردهما من الداخل من ملامح المرحلة العمرية الغضة، وتدفع بهما إلى مرحلة أخرى. اللافت أن الكاتبة الراحلة أغوتا بنت تلك العوالم بشكل يجعل القارئ مشدوداً إلى هذين الصغيرين، ليرقب فصول تحولهما، ويتعاطف معهما، ويلعن تلك الحرب التي جعلت طفلين صغيرين يشبّان قبل الأوان، بعد أن تلوثت أعينهما بكل ذلك القبح، وكان لزاماً عليهما أن يعاينا ويواجها مآسي بالجملة، وحيدين في ظل غياب الأب والأم في ساحة المعارك.

تحفل الرواية التي صدرت ترجمتها العربية أخيراً عن منشورات الجمل في بيروت وبغداد، بمشاهد شديدة القسوة، في بلدة حدودية، وثمة جنود غرباء، وأناس يكافحون من العيش والنجاة بأعمارهم، وجدة «مشعوذة» متهمة بتسميم زوجها سلمت إليها ابنتها صبييها التوأمين، بعدما تم استدعاؤها للحرب هي الأخرى.

بين المجرية والفرنسية

ولدت أغوتا كريستوف عام 1935 في المجر، وغادرتها في الـ20 من عمرها لاجئة إلى سويسرا مع زوجها الذي كان أستاذها. تعلمت الفرنسية، وكتبت أعمالها الأساسية بها (روايات الدفتر الكبير، البرهان، الكذبة الثالثة، أمس) والكثير من المسرحيات والمسلسلات الإذاعية. ورحلت أغوتا في عام 2011 بعد أن صمتت في آخر حياتها عن الكتابة، رغم حصدها العديد من الجوائز المهمة، ومن بينها جائزة ألبرتو مورافيا عام 1988، وجائزة غوتفريد كيللر في 2001، وجائزة فريدريش شيللر في 2005، وجائزة الأدب الأوروبي النمساوية في 2008. وحصلت عام 2011 على جائزة كوسوث التي تمنحها السلطات المجرية.

أدخلت الكاتبة بطلي الرواية في تمارين قاسية، تجعلهما ممهدين لما هو آت من مشاهد دموية، فالصغيران علما نفسيهما كل شيء تقريباً، واكتفيا عمن سواهما، تدربا سوياً على مواجهة الجوع والشتائم، اختبرا شعور أن يعيشا متسولين، وأن يكون أحدهما أعمى والآخر أصم، أو أن يتبادلا دوري فقير وغني، وغيرها من المشاعر والصفات، حتى استطاعا أن يصلا إلى مرحلة من الحيادية والتجرد تجاه أشياء كثيرة غريبة يمتلئ بها العالم من حولهما. ولا تكتفي الروائية أغوتا كريستوف بذلك، بل تدخلهما في ميدان آخر، ربما لتعطي لسواها من المبدعين درساً في الكتابة، وكيفية رسم عوالم روائية مختلفة، فالتوأمان اللذان انقطعا عن المدرسة بعد الحرب، يواصلان تعليمهما ذاتياً، ينشآن فصلهما الخاص بهما، يبدعان في وصف ما يدور وما يحدث من حولهما، بواقعية أكبر من عمرهما يكتبان ما يشاهدان، يجردان اللغة من المجاز، لتكون حصيلة الكلمات التي يخطها الصغيران حقيقة خالصة من وجهة نظرهما، فالحاصل في الحياة من حولهما كفيل بأن يبوح بكل شيء، ولا داعي لتجمليه أو تزييفه أو محاولة تخفيف وقعه بصور مختلفة.

تلك الحالة التعبيرية، تآزرت مع مشاهد الرواية وكثير من أحداثها، فالتوأمان يستجيبان لتوسل الجدة بألا يتركاها تعاني إن أصابتها جلطة دماغية، ويساعدها على الرحيل في هدوء، والأمر مشابه حينما توسلت إليهما إحدى الجارات بأن يحرقا منزلها، خصوصاً بعدما شاهدت مصرع ابنتها «خطم الأرنب» في صورة قاسية، ويطيع الصغيران توسلات الجارة، وينفذان بشكل حيادي المهمة الموكلة إليهما.

تقسم الكاتبة الرواية إلى مشاهد كثيرة، يحمل كل واحد منها عنواناً، وهي في الغالب تشير إلى شخصيات حاضرة في العمل، وتستأثر جدة الصغيرين بمشاهد عدة، إذ أجادت الكاتبة في تصوير تلك الشخصية، وجعلتها كياناً حاضراً ذا تأثير كبير في عوالم الرواية. ومن أجواء «الدفتر الكبير» التي تحولت إلى فيلم حاز العديد من الجوائز: «جئنا من المدينة الكبيرة. كنا قد سافرنا الليل بأكمله. عينا أمي كانتا محمرتين. كانت تحمل صندوق كرتون كبيراً، فيما يحمل كل منا حقيبة صغيرة تحوي ملابسه، إضافة إلى المعجم الكبير الذي كان ملكاً لأبي، والذي كنا نتبادل حمله كلما تعب ساعد أحدنا. مشينا طويلاً، منزل الجدة بعيد عن محطة القطار، هو في الطرف الثاني من المدينة الصغيرة، لا يوجد هنا ترامواي، ولا باص ولا حتى سيارات، وحدها بعض الشاحنات العسكرية تجوب الطرقات، ليس ثمة سوى القليل من السابلة، والمدينة تغرق في صمتها، بوسعنا سماع وقع خطانا؛ كنا نمشي دون أن ننبس بكلمة، تتوسطنا أمنا».

الأكثر مشاركة