كاتب «لم يعش في جلباب أحد»

عبدالقدوس.. يتذكر

صورة

مثل رواية متعددة الفصول الدرامية، تبدو حياة الكاتب الراحل إحسان عبدالقدوس، الذي مرت ذكرى غيابه، أخيراً، (غاب في 12 يناير 1990)، إذ أزعج قلم صاحب «لن أعيش في جلباب أبي»، و«لا تطفئ الشمس» كثيرين، سواء في موقع القرار، أو نقاد لم يرضهم «أدبه الصريح»، بينما كان للقرّاء رأي مغاير.

بدأ إحسان عبدالقدوس، الذي ولد في عام 1919 مشواره مع المشاكسة مبكراً، ربما بتمرد شخصي على الأسرة والوصاية، فاختار قلبه فتاة، وارتبط بها وهو طالب حقوق، في زواج سري، لم تباركه الأسرتان، رغم خضوعهما له في بعد. استمر التمرد بعد ذلك حينما دخل إحسان عبدالقدوس ديوان «صاحبة الجلالة» الصحافة، والتحق بمجلة «روز اليوسف» التي أسستتها أمه الفنانة والصحافية فاطمة اليوسف، ونشر بداية تحت اسم مستعار، ثم دخل إلى حقول ألغام، بإثارته لقضية كبرى، وهي «الأسلحة الفاسدة»، التي رأى أنها سبب هزيمة الجيش المصري في حرب فلسطين عام 1948، واصطدم حينها بأكبر رأس في البلاد، فعبدالقدوس هو أول من أثار تلك القضية، وطالب بمحاكمة «مجرمي حرب فلسطين»، المسؤولين عن صفقات الأسلحة للجيش، ومن بينهم ابن عم الملك فاروق، عباس حليم.

أرّقت كتابات إحسان عبدالقدوس الذي حافظ على استقلاليته فرفض الانضمام إلى أي تيار أو حزب، على عكس نجله الكاتب محمد عبدالقدوس، مراكز قوى، فتعرض للملاحقات والاعتقال، وكذلك لمحاولات اغتيال كما ذكر في كتاب «إحسان عبدالقدوس يتذكر»، الذي أعدته الدكتورة أميرة أبوالفتوح، كما واجه عبدالقدوس حملات تشويه، وهجوماً شخصياً عنيفاً، فإحدى الصحف الحزبية، مثلاً تخصصت في نعته بـ«ابن الست»، وأنه ابن ممثلة لا يصلح للسياسة، ولذا ينبغي أن يبتعد عنها، إلا أن عبدالقدوس بفضل تلك «الست» فاطمة اليوسف استطاع تجاوز كل ذلك وتكملة مشواره مع الكلمة الحرة التي ترفض الإملاءات. وكما دفع كاتب «الرصاصة لاتزال في جيبي» ثمن نضاله بالكلمة قبل ثورة 52 دفع ثمن نضاله بعدها أيضاً، إذ دخل السجن الحربي، على الرغم من علاقته المباشرة بالضباط الأحرار، ولقاءاته المتعددة بأبرز وجوهها، كجمال عبدالناصر وأنور السادات.

وابنها في السجن، عادت من جديد فاطمة اليوسف إلى الواجهة، وأدرات المجلة مكان عبدالقدوس، وقررت المواجهة، فقاطعت صفحات المجلة أخبار الثورة، وكأنها لم تقم، ولم يتغير شيء في مصر، فزار الرقيب العسكري فاطمة اليوسف وحاول أن يثنيها عن تلك السياسة، إلا أنها رفضت، وكذلك كانت هناك محاولة من قبل الكاتب محمد حسنين هيكل الذي كانت علاقته بعبدالناصر تتوثق في تلك الفترة، وحاول أن يعقد هدنة مع فاطمة اليوسف، إلا أن أصرّت على موقفها، وقالت كما روى ولدها الذي ظل في الزنزانة رقم (19) في السجن الحربي 95 يوماً: «آسفة لن أكتب حرفاً واحداً عنكم حتى ولو أعدمتم ولدي».

كان هناك مترصدون لكل كلمة يكتبها أو حتى ينطق بها عبدالقدوس، فحين نقل الراديو صوته للناس وهو يتحدث إليهم تحت عنوان «تصبحوا على خير.. وتصبحوا على حب»، شنت ضده حرباً بسبب كلمة «حب»، وربط البعض بينها وبين دلالات أخرى، ووصل الأمر إلى مجلس قيادة الثورة وجمال عبدالناصر الذي اقترح حلاً وسطاً للأزمة تغيير العنوان إلى «تصبحوا على محبة»، لكن عبدالقدوس رفض، وقال: «الحب في نظري ليس مجرد عاطفة بين رجل وامرأة فقط.. بل هو إحساس بالحياة.. بالوجود.. بالمجتمع.. أحببت جدي فدافعت عنه في مجمع المثقفين في بيت أمي، وأحببت أمي وأبي فدافعت عنهما في مواجهة جدي وزملائه المحافظين.. وأحببت شعبي فدافعت عنه ضد فساد الأحزاب والقصر.. وأحببت مصر فدافعت عنها ضد المستعمر». لكن شطب حديث إحسان عبدالقدوس، وقرر الرقيب المتحكم في كل شيء إلغاءه نهائياً. لم تنته معارك عبدالقدوس عند ذلك الحد، إذ دخل في مواجهات أخرى، كان طرفها في الغالب المتحكمون في السلطة، مرة مع عبدالناصر وأخرى مع السادات وغيرهما، ولذا تنقل الرجل في مواقع كثيرة من «روز اليوسف» إلى «أخبار اليوم» إلى «الأهرام»، وجرى قلم الرقيب على كتاباته، حتى وهو في المرحلة الأخيرة من حياته، ورواياته تتصدر قائمة الأكثر مبيعاً، وتتلقفها السينما لتحوّله إلى أفلام.

تويتر