من يوميات المبدع السوداني في ذكرى الرحيل

«منسي» الطيب صالح.. سيرتان نادرتان

صورة

مبدع «موسم الهجرة إلى الشمال» ومنسي، تحولا إلى صديقين حميمين، بل وصار الطيب «أباً روحياً» لمنسي، ورضي بأن يغض الطرف عن ألاعيبه، ويشترك فيها أحياناً، فيصير «ممثلاً مسانداً» لمن لا يرضى بغير دور البطولة.


تضيء سيرة «منسي.. إنسان نادر على طريقته» للمبدع السوداني الراحل الطيب صالح الذي مرت أمس ذكرى غيابه (18 فبراير 2009)، نمطي حياة مختلفين، فهي كما تعرض لفصول من حياة يوسف بسطارووس الذي صار أحمد منسي، تبرز فصولاً من حياة الطيب صالح ذاته، الذي كانت له حكايات ومواقف كثيرة مع من تحمل السيرة اسمه. بداية لقاء الطيب بمنسي كانت في لندن، تحديداً عام 1953، في هيئة الإذاعة البريطانية (بي.بي.سي)، وامتدت الحكاية، وتحوّل مبدع «موسم الهجرة إلى الشمال» ومنسي إلى صديقين حميمين، بل وصار الطيب بمثابة «أب روحي» لمنسي، ورضي بأن يغض الطرف عن ألاعيبه، بل ويشترك فيها أحياناً، فيصير «ممثلاً مسانداً» لمنسي الذي لا يرضى بغير دور البطولة، إذ كان شخصية استثنائية، أطلت على هذه الحياة بوجوه كثيرة، فالقبطي الفقير ابن مدينة ملاوي في صعيد مصر، أصبح بعد حين أرستقراطياً يمتلك مزرعة فارهة في ريف لندن، وكانت له حيل ومواقف طريفة، واحد منها مع ملكة بريطانيا ذاتها إليزابيث الثانية.

يعترف الطيب صالح بمواهب منسي الجمة، التي فتحت له قلوب كثيرين، حتى الكاتب المتجهم الانعزالي صمويل بيكت، استطاع منسي أن يتواصل معه، ويصبح نديماً له، بل وأكثر من ذلك أقنعه بأنه (أي منسي) كاتب بارز، وصاحب إسهامات في ذلك، وهيأ للطيب صالح لقاء لكي يجري حواراً مع بيكت، لكن الطيب تراجع عن المشروع.

http://media.emaratalyoum.com/images/polopoly-inline-images/2014/02/955803%20(1).JPG

يرى الطيب صالح أن منسي كان موهوباً ذا حيل على مسرح الحياة فحسب، أما على خشبة الفن، فلم يكن كذلك، إذ كان ممثلاً متواضع الإمكانات: «ما أن يقف أمام الميكروفون أو الكاميرا، حتى يصبح فاتراً أو يبالغ في الأداء فيبدو سخيفاً»، وبحكمة يكمل الطيب صالح: «الحياة شيء والفن شيء، و(الأونطة) قد تصلح في الحياة، ولكنها لا تصلح في الفن أبداً». لذا ظهر منسي دقيقة أو دقيقتين في أعمال سينمائية عدة، ورغم محاولاته اقتناص دور البطولة في غير فيلم عالمي من الفنان عمر الشريف، إلا أن مواهبه الحياتية، كانت أكبر من قدراته الفنية، كما لخص الحكاية صديقه الطيب صالح الذي قال مخاطباً إياه: «الأونطة تنفع في كل شيء إلا في الفن، انت تعرف إنجليزي كويس وتحفظ مونولوجات هاملت وريشارد الثالث، لكنك ممثل فاشل. عمر الشريف ممثل عالمي، وأنت مين؟ مين سمع بمنسي.. حتى اسمك لا يصلح للسينما.. وبعدين عمر الشريف رجل وسيم وأنت ما شاء الله».

تبرز شخصية «منسي» في هذه السيرة، لكن يكتشف القارئ ملامح ربما يجهلها عن الطيب صالح، إذ يجد «روحاً مصرية»، وهو ما برز بشكل خاص في الحوارات التي عبر عنها الطيب صالح، الذي ولد في عام 1927 في قرية بشمال السودان، وكأنه ربيب حي شعبي في القاهرة، أو ابن إحدى القرى المصرية.

http://media.emaratalyoum.com/images/polopoly-inline-images/2014/02/955803%20(2).jpg

يروي المبدع السوداني كيف ورطه منسي في أزمة إدارية بالـ«بي. بي.سي»، ظلت نقطة سوداء في تاريخه مع الإذاعة العريقة التي أرسلته كأول عربي إلى نيويورك لتغطية اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة: «ذلك الحدث المشهود الذي أمه معظم زعماء العالم، وكنت شاهداً حين خلع نيكيتا خروشوف حذاءه، وضرب به المائدة احتقاراً، ورئيس وزراء بريطانيا واقفاً يخطب». امتدت مسيرة منسي - الطيب، لم تنته حتى بعد ترك الصديقين لندن، فمنسي هاجر إلى أميركا، وبعدها استقر إلى الرياض متزوجاً من جديد، لكن هذه المرة مسلماً، أما الطيب فيمّم ناحية الدوحة العاصمة القطرية التي عمل فيها سنوات طويلة، مديراً بوزارة الإعلام ومستشاراً لها. ورغم ذلك بقيت العلاقة وطيدة، ولم تنقطع رحلات الصديقين معاً، وكذلك الورطات التي يقع فيها الطيب بسبب منسي وحيله المتعددة الحاضرة دائماً، قد يكون ذلك مرة في مطار القاهرة، وثانية ببيروت، وثالثة في مدينة أسترالية. يسرد الطيب صالح عن الرحلة التي جمعته بمنسي إلى بيروت في عام 1975، وكيف كانت تلوح في الأفق بوادر الحرب التي أتت على بشر، وكذلك أمكنة كثيرة كان للطيب صالح ذكريات جميلة فيها، إذ كانت بيروت التي «تتأرجح بين الجبل والبحر» المكان الأول الذي نشر كلمات الأديب السوداني، وسبباً للتعريف به، وانتدب للعمل في مكتبة هيئة الإذاعة البريطانية فيها، وكانت له لقاءات وحوارات مع المثقفين العرب فيها، إذ كانت بيروت قبلتهم في تلك الآونة.

 http://media.emaratalyoum.com/images/polopoly-inline-images/2014/02/955803%20(3).jpg

 

تويتر