«شمندورة» النوبة.. أصدق إنباء من النشرات
في الأصل، وبعيداً عما تحمله النشرات المصرية في اللحظة الآنية عن ضحايا أسوان، كان صوت الرصاص نفسه غريباً على أسماع النوبيين، كما صوّر رائد الأدب النوبي الراحل محمد خليل قاسم في رائعته «الشمندورة»، التي تروي طرفاً من الحكاية، وفصلاً من فصول تغريبة بدأت منذ كتب على «ناس النهر» أن يدفعوا ثمناً باهظاً لمجاورتهم للنيل، وعشقهم له.
عن تهجير ثان للنوبيين في ثلاثينات القرن الماضي، بعد تعلية سد أسوان، تدور «الشمندورة» التي تعد فاتحة الباب الروائي في الأدب النوبي، وتفصل في أكثر من 500 صفحة سحر مكان ينتظر «طوفاناً»، تحرص عين الرواي الصغير على توثيق جماليات تلك البقعة من أقصى الجنوب المصري، فلا تخلو صفحة في الراوية من وصف متأمل، وكأن الكاتب الراحل أبى أن تغيب الفضاءات واقعاً وخيالاً، فأعاد رسم تفاصيلها في «الشمندورة»، وخلد كل حيز بين النيل والجبل: المساحات الخضراء، وساحات اللعب، وشواشي النخيل وأعواد الذرة، وحتى الآبار المهجورة، والأيقونات، الأطباق المزخرفة التي تزين المنازل.
رائد تتماس أحداث الرواية مع سيرة كاتبها محمد خليل قاسم الذي ولد عام 1922، ورحل عام 1968. وكتب روايته خلال اعتقاله في السجن، ونجح في نشرها مسلسلة. ويعتبر نقاد كثيرون «الشمندورة» أول رواية في الأدب النوبي. |
يبدو المكان المهدد بطلاً، لكن ثمة أبطالاً آخرين بسمات مسالمة، يختصرون طبيعة ناس ذلك المكان، فعين الروائي وكذا خياله لن يخترعا شيئاً من العدم، والأدب النوبي كان سجلاً حقيقياً لأهله، رصد أحلامهم وهمومهم، ولم يبالغ في إضفاء مثالية غير واقعية على أهل أقصى الجنوب من النوبيين، فثمة في «الشمندورة» شخصيات انتهازية، تنقض عهد الجماعة، وتخون «الفاتحة» التي قرأها الجميع خلال المفاوضات مع الحكومة، من أجل التعويضات عن ترك المكان، وأيضاً أبناء عاقون يهاجرون ويتركون أماً وحيدة، أو عائلات لا يسألون عنها، لكن الأجواء بشكل عام مسالمة، لا أثر فيها لدم أو لضحايا بالجملة، كل ما تقترفه هي المشاجرات الصغيرة التي لا تلبث أن تصفو بعد حين.
وفي مشهد محوري من رواية «الشمندورة» يبرز محمد خليل قاسم كيف أن صوت الرصاص حتى كان غريباً على مسامع أهل القرية: «انبعث صوت الرصاص غريباً في القرية. أول رصاصة سمع الناس دويها. أول دوي من نوعه ردد الجبل صداه. إنهم لم يسمعوا صوتاً مثله من قبل إلا في المدن، ذاكرتهم تعي صوت الدوي على الطبول وارتطام ألواح الخشب بالماء أو انهيار جدار، أما هذا الصوت البارق فإنهم لم يسمعوه قط». والمفارقة أن الرصاص من أطلقه كانوا عساكر، وليس أحداً من النوبيين المعارضين للرحيل، أو حتى المعترضين على قيمة التعويضات عن الأرض والنخيل والذكريات والأحبة المدفونين بجوار النيل، بعدما اختار البعض الهجرة إلى أماكن شتى، بينما لجأ آخرون إلى قمم الجبال الشاهقة التي لا تنبت إلا الصبار، كي لا يبتعدوا كثيراً عن قراهم التي أغرقها طوفان بعد آخر، لكنهم دفعوا ثمن ذلك غالياً، فحرموا من ظل نخليهم، ونسيت حلوقهم طعم عسل التمر الذي تربوا عليه: «فقد ولدوا جميعاً على هذه الأرض، ومن قبلهم ولد عليها آباؤهم وأعمامهم، إنهم جميعاً يعشقون أشجار النخيل ويحبونها هي والأرض الزراعية والبيوت المبنية من الطين والطوب الأخضر.. يعشقونها كما يعشقون زوجاتهم، دار في خلدهم دائماً أن بلادهم أجمل بلاد الدنيا، وناسها أحسن ناس في العالم.. هم الناس وغيرهم ركش لا طائل تحته، حلب لا قيم لديهم. يرحل الواحد منهم، ويحمله الرحيل إلى عواصم بلاد كبرى، ثم يدنو الأجل فيعود حاملاً كل ما ادخره إلى هذه الأرض ليموت بين أشجار النخيل، وليدفن في الجبانة المترامية إلى جوار الحاج مكاوي.. فلماذا يصدقون اليوم أن طوفاناً يمكن أن يأتي على كل هذا الذي يعشقونه؟». يجبر العاشقون على ترك مكانهم، وتسهب الرواية في وصف مشاهد الرحيل عن الوطن القديم، ليغرسوا أنفسهم في تربة أمكنة أخرى، في أرض الله الواسعة، يعملون في مهن مختلفة، خصوصاً بعدما أتت النيران على الخيام التي يقيمون فيها مؤقتاً، وتأكل متاعهم البسيط، وكذلك نقود التعويضات عن الذكريات وملايين شجرات النخيل، لتتوالى فصول الحكاية النوبية في هجرة جديدة بعد سنوات قليلة، لكن هذه المرة بعد بناء السد العالي، ليكمل حكاية الرحيل النوبية أدباء آخرون بعد قاسم، مبدع «الشمندورة».