«الشـــــارقة للآثار».. التجوّل في أروقــــة التاريخ
تساعد دراسة علم الآثار على معرفة تاريخ وحضارة المنطقة التي استبطنت تلك القطع الأثرية، ولا يتم ذلك إلا بتحديد عمر القطعة، وقراءة الأدلة المحيطة بها، واستخدام المواد المناسبة في ترميمها بعد استخراجها.
ويساعدنا علم الآثار على فهم أين ومتى عاش الناس على سطح الأرض؟ أين ظهروا لأول مرة؟ ولماذا هاجروا وانتشروا في بقاع الأرض؟ كيف تعلموا مبادئ الدين وأصول الزراعة وممارسة التجارة وأعمال الحروب؟ كيف عاشوا وأين دفنوا؟ ويهدف علم الآثار بالاستناد إلى الدليل الأثري إلى محاولة رسم صورة عن حياة المجتمعات البشرية، وإعادة بناء ماضيها، وفهم الحوادث والتغيرات التي مرت بها، من أجل توثيق مراحل تطور الحضارة البشرية والمحافظة عليها.
قراءة الأدلة لا أحد - سوى المتخصصين في علم الآثار بفروعه - يستطيع قراءة الأدلة الآثارية، التي ستكتب من خلالها أسطر جديدة في تاريخ الموقع والمنطقة وربما البشرية، كما حدث حينما اكتشفت أدوات صوانية في الفاية بالشارقة يزيد عمرها على 125 ألف عام، ما غير الافتراضات السابقة عن زمن الهجرة الحديثة للجماعات البشرية، من إفريقيا إلى الجزيرة العربية والطريق الذي سلكته. وتبين دراسة العلاقة بين اللقى المصنوعة وبقايا الأبنية والمدافن واللقى الطبيعية أسلوب حياة سكان الموقع، فعظام الغزلان والثيران البرية، التي وجدت في موقع البحيص 18، أثارت تساؤلات حول طبيعته قبل 7000 عام، لتثبت دراسة المناخ أن هذه المنطقة - الجافة حالياً - كانت تنعم بقدر وافر من الأمطار الموسمية، ما فجر نبعاً في الجبل استقى منه البشر والأنعام، كما توفر العشب الذي اقتاتت منه القطعان والحيوانات البرية التي تغذى عليها سكان الموقع، وبقيت عظامها فيه أدلة آثارية. وأوحى العثور على بقايا جرار الإمفورا في مليحة عام 1973م، بوجود جالية يونانية سكنت المكان قبل 2000 عام، لكن أدلة آثارية اكتشفت في ما بعد أثبتت أنها تشير إلى صلات لأهل مليحة مع اليونان، أدت إلى استيراد تلك الجرار. تقنيات متطورة ساعد التقدم في علم الأشعة علماء الآثار على اكتشاف كثير من الأشياء، التي لم تكن تظهر بالعين المجردة أو بالمجهر، فمن خلالها يستبينون مقدار امتداد التآكل في القطع المعدنية ونسبة المعدن التي لم يصلها التلف، كما تظهر لهم صور الأشعة بعض التزيينات والزخارف التي غطتها التفاعلات بين مادة القطعة والعوامل الخارجية، وتوضح لهم الصور حجم التشققات الصغيرة المختفية، ويمكنهم التعرف إلى بعض خفايا تصنيع تلك القطعة، والتقنيات التي استخدمت في ذلك. واستطاع العلماء، من خلال جهاز الأشعة المتطور في مختبر متحف الشارقة للآثار، أن يكتشفوا لأول مرة التزيينات الموجودة على الحلقات الحديدية للجام الخيل ذي الأقراص الذهبية، المكتشف في مليحة بعمره الذي يقرب من 2000 عام، والتي لم تتم ملاحظتها في الفحوص السابقة، وقد أضاف ذلك مزيداً من المعلومات عن تلك القطعة النادرة، ومستوى الثراء الذي عاشه صاحبها وجعله يدفن ذلك اللجام الثمين إلى جواره. ونشأ العديد من الحضارات على مر العصور في مختلف أرجاء العالم، ومنها دولة الإمارات، إذ تنتشر المواقع الأثرية في أرجائها، خصوصاً إمارة الشارقة، وقد شهدت هذه المواقع حملات تنقيب منذ ما يزيد على 50 عاماً، وعثر فيها على مخلفات الأقوام التي استوطنت هذه الأرض، منذ العصر الحجري القديم وحتى الفترة الإسلامية، إذ مهما كانت طبيعة هذا الموقع أو ذاك فربما تكون كنزاً يحتوي على ثروة من المعلومات، متمثلة بما صنعته يد الإنسان أو بقايا النباتات وعظام الحيوانات، التي تشكل مصدراً لفهم الظروف المناخية والبيئية ومصادر العيش. إن كل ما تركه الإنسان في هذه المواقع الأثرية سيروي لنا قصة حياته ومهاراته وطرق معيشته وعلاقاته الاجتماعية ومنجزاته الحضارية. |
إذ من السهل أحياناً تحديد عمر قطعة أثرية، بمقارنتها بقطع أخرى مشابهة، اكتشفت من قبل وحدد عمرها، لكن الأمر أعقد عند اكتشاف قطعة أثرية غريبة عن المنطقة، ما يتطلب البحث عن طريقة أخرى لتقدير عمرها، وتعد طريقة التأريخ بقياس نسبة الكربون 14 إحدى الطرق المتبعة في تحديد عمر المواد العضوية كبقايا النبات والإنسان والحيوان، من خلال معرفة الكمية المتبقية من ذرات الكربون في هذه البقايا، والتي تنحل منها بنسبة ثابتة عبر السنين، وعليه يمكن تحديد عمر الحلي والأواني المعدنية المدفونة في قبر ما، عبر معرفة عمر عظام صاحبه.
فعلى سبيل المثال، لم يجد العلماء بقايا عضوية في الطبقة الحاوية للأدوات الصوانية المكتشفة في جبل الفاية وسط إمارة الشارقة، وإن رجحوا من شكلها أنها من العصر الحجري القديم، لكن عينات من التربة المحيطة بهذه الأدوات أخذت إلى الخارج، واستخدمت في فحصها طريقة التألق الضوئي، التي يتم من خلالها حساب آخر إشعاع للشمس على سطح القطعة، ووجد أن عمر هذه القطع يربو على 125 ألف عام.
وكانت إدارة متاحف الشارقة قد أطلقت، أخيراً، معرض رحلة قطعة أثرية في متحف الشارقة للآثار، تحت عنوان «من الموقع إلى المتحف»، إذ يستطيع الزائر التجول بين أروقة المعرض، للتعرف إلى الأسرار التي تكتنف القطع الأثرية منذ اكتشافها وحتى عرضها في خزانة المتحف، وينقسم المعرض إلى ثلاثة محاور تمر بها القطعة الأثرية، منها المحور الأول، إذ يتعرف إلى لحظة ميلاد القطعة الأثرية، أي لحظة اكتشافها وعثور المنقبين عليها، وكيف يتم التعامل معها بدءاً من عملية التنقيب، ووصولاً إلى رفع القطعة الأثرية من الموقع وترقيمها، والاستعداد لنقلها إلى المختبر.
أما المحور الثاني، وفيه تكتشف المراحل التي تمر بها القطعة الأثرية بين أيدي المختصين من علماء الآثار، ومن يتعاون في سبيل التعرف إليها وتقدير عمرها ودراسة دلالة وجودها في الموقع، كما تمر كذلك بسلسلة من العمليات التي تستهدف ترميمها وإعادة إصلاح الأجزاء المكسورة منها، تمهيداً لعرضها في المتحف.
فيما المحور الثالث، الذي يخص طريقة عرض القطعة الأثرية في المتحف، إذ إن الرحلة لا تنتهي بها عند عرضها، بل إن عين المراقب لا تفارق القطعة بحثاً عن أي تغيرات قد تصيبها في بيئتها الجديدة، أو ما يمكن أن يتسبب في الإضرار بها، كما تتواصل في هذه المرحلة الدراسات والبحوث حول القطعة، ومدى ارتباطها بالمكتشفات الأقدم أو الأحدث، وربما انتقلت القطعة إلى معرض أكبر لتروي لنا حكايات من عبق الماضي وتاريخ الأجداد الأوائل، ويحظى باكتشافها كل من هو شغوف بالقطع الأثرية النادرة.
ويبقى الهدف من ترميم القطعة الأثرية هو الحفاظ عليها وحمايتها، وكذلك الكشف عن عناصر الجمال فيها واستنطاق تاريخها، وكما أن لكل قطعة أثرية أسلوباً في الرعاية والتنظيف، كذلك تختلف طرق ترميمها، فربما تحتاج إلى إعادة تركيبها بالكامل، أو إصلاح جزء بسيط انكسر منها، أو معالجة تلف يهدد ملامحها.
ويختلف تعامل المرمم مع القطع الأثرية، تبعاً للمادة المكونة لها، فمثلاً بعد أن يتم توثيق الحال التي وصلت بها القطعة المعدنية إلى المختبر؛ تبدأ عملية إزالة الرمل حيث يتم تعريضها لجهاز ينفخ الهواء لإزالة أكبر قدر من الغبار.
وتبدأ إزالة الكتل المتكلسة من على سطحها بدقة، وتحت المجهر، ويستخدم في ذلك مشرط حاد وأدوات دقيقة في عملية بطيئة، تحدد مداها حال القطعة عند الاكتشاف وطبيعة المعدن الذي تتكون منه، إذ يفضل اجتناب استخدام المواد الكيماوية قدر المستطاع، حتى لا تتفاعل مع المعدن، عدا بعض المواد الكيماوية المثبتة كمادة البينزوتريازول، التي تستخدم بمقادير قليلة لمنع استمرار التآكل في القطع المكونة من خليط النحاس، حيث تشكل طبقة واقية على سطحها، وهناك مواد أخرى تحفظ القطعة من التأثر باللمس والرطوبة المحيطة.