رضوى عاشور.. وصاحبــات المقام المنسيّ

في مقام وداع مبدعة بقامة رضوى عاشور، ربما لا يطال الحزن قارئها وحده، بل أيضاً شخصيات كتبت لها صاحبة «ثلاثية غرناطة» الحياة، وسيدات منسيات استدعتهن مبدعة «الطنطورية» من الهامش، وحولتهن إلى رموز، وانتصرت لهن من كتبة التاريخ الرسمي.

حسّ ملحمي.. وأجيال

حسّ ملحمي ميّز قلم الكاتبة الراحلة رضوى عاشور؛ لاسيما في «ثلاثية غرناطة»، و«الطنطورية»، اللتين قد تصلان إلى نحو 1000 صفحة، وتشتملان على أجيال متعددة، وتغطيان فترة زمنية ممتدة، على الرغم من أن «الثلاثية» تنتمي إلى الأندلس، و«الطنطورية» إلى فلسطين وحكايتها الشديدة الخصوصية.

«سراج»

نساء الكاتبة الروائية الراحلة رضوى عاشور حارسات عنيدات، يعشن على الأمل، ويمنحنهن للآخرين، ويتحملن مآسي بالجملة، في مقدمتها رحيل الزوج، وربما الولد. واستحضار بطلة رواية «سراج» ربما يلخص ذلك، فآمنة التي غاب وحيدها ظلت تسأل عنه بحارة من هنا وهناك، تتبع أخباره بلا كلل صبحاً ومساء يومياً، حتى عاد الولد من رحلة الغياب، إلا أنه لا يفتأ يرتحل من جديد، لكن هذه المرة بلا عودة، حدث هذا بين يدي الأم آمنة التي تحملت مأساة شديدة التركيب.

أعمال

من أعمال الراحلة الدكتورة رضوى عاشور: «الطريق إلى الخيمة الأخرى» دراسة في أعمال غسان كنفاني عام 1977، و«التابع ينهض» عن الرواية في غرب إفريقيا، و«الرحلة.. أيام طالبة مصرية في أميركا» عام 1983، ورواية «حجر دافئ» 1985، ورواية «خديجة وسوسن» 1989، والمجموعة القصصية «رأيت النخل»، وروايات «سراج»، و«أطياف»، و«ثلاثية غرناطة»، و«فرج».

وتعد رواية «الطنطورية» آخر أعمال رضوى عاشور الروائية؛ بينما تعد سيرتها الذاتية التي أصدرتها أخيراً بعنوان «أثقل من رضوى»، آخر ما رأى النور من كتابات رضوى عاشور التي رحلت أخيراً. وللدكتورة رضوى العديد من الدراسات النقدية والترجمات.

حين ذهبت رضوى عاشور التي رحلت في 30 نوفمبر الماضي إلى التاريخ، لم تبحث عن ملوك الطوائف ولا أميرات الأندلس أو جواريها الفاتنات، بل تخيّرت بشراً مجهولين، تخيّلتهم بين جنبات غرناطة، بعيداً عن قصر الحمراء وصفقاته الأخيرة التي ودع العرب بعدها الأندلس، صوّرت مآسي غابت عن أقلام المؤرخين. انتصرت الروائية لمن اعتبرتهم أبطال التاريخ الحقيقيين، ممن وجدوا أنفسهم وسط صراعات كبيرة، تخيّرهم بين الرحيل عن الأرض، والقهر وطمس الهوية، والتخلي عن الروح التي تجاوز عمرها قروناً في المكان.

كتبت رضوى عاشور تاريخاً «فنياً» موازياً، سردت الماضي البشري الحي الطازج، لا الميت المجفف، استدعت أرواح أناس ربما عاشوا في حي البيازين الغرناطي، أو في قرية الطنطورة، أو في القاهرة القديمة، أو على جزيرة متخيلة.. خلّدت شخصيات، وحوّلتها إلى رموز، فربما يتتبع قارئ ما خطوات تلك الشخصيات، وقد يبحث عن آثار «أبوجعفر» و«نعيم» و«مريمة» و«سليمة» و«علي» في غرناطة، إذ تبدو عبقرية رضوى عاشور في أنها جعلت شخصيات رواياتها كأنها جزء من التاريخ، وليست كائنات ورقية متخيلة، إذ إنها تختزل الكثير، لذا تظل حية تتراءى أمام القارئ.

مقاومة حياتية من نوع خاص، بطولات صغيرة، مجدتها رضوى عاشور في حكاياتها، جسّدتها في شخصيات من لحم ودم ومشاعر، لاسيما الأمهات والنماذج النسوية الرائعة، تستوي في ذلك مريمة «غرناطة»، ورقية «الطنطورية»، وكذلك آمنة في رواية «سراج»، وغيرهن كثيرات، فصورة المرأة في أعمال رضوى عاشور تستحق التوقف معها طويلاً، إذ تتجلى «حواء» في أبهى صورها وأقواها، نماذج دائماً في الذروة، ولا يعني ذلك أنها بعيدة عن الخطأ؛ لكنها منزهة عن الخطيئة، تضعف أحياناً لكن لا تسقط، عمود الخيمة، وسيدة التحديات، والرمز الباقي حتى وإن انهار كل ما حوله. بهذا تنطق شخصيات في روايات صاحبة «حجر دافئ»، نساء يشبهن رضوى عاشور ذاتها، تلك القيمة التي كافحت طويلاً بين جنبات الجامعة المصرية، وفي العديد من الميادين الأخرى.

تبدو رضوى عاشور تحديداً في رائعتيها «ثلاثية غرناطة» و«الطنطورية»، صاحبة نفس ملحمي، تسطّر بطولات البسطاء؛ ممن تجاوزتهم الأقلام المهمومة بالأحداث الكبرى، التقطت أناساً عاديين وسجلت يومياتهم مع الحياة، تحايلهم عليها، ومحاولاتهم مقاومة القهر الممارس عليهم، سواء في غرناطة الأندلس، أو في طنطورة فلسطين؛ فالمشهد المسجل هنا عن الترحيل عن الأرض في «الثلاثية» يعبر البحر، ويمتد إلى حيز آخر: «لم يودعوا الزيتون ولم يقتربوا من الحقول، فمن يملك قلباً مدرعاً ليحدق في جذع زيتونة غرس شتلتها ورعاها وكبّرها ورأى عقد الثمار عليها عاماً بعد عام. تهربوا من الزيتون، وغادروا في صمت وبلا سلام». وظّفت رضوى عاشور «ثلاثية غرناطة»، لتتماس - بشكل فني - مع مأساة اليوم، لتقيم حالة من الوصال بين فضاءين ضائعين متباعدين زمانياً ومكانياً، لكنهما يتشابهان في فصول من الحكاية، وربما حواضر عربية أخرى؛ تصير غرناطة القدس وبغداد، تتشابه امرأة تركض «عارية» في أولى صفحات «ثلاثية غرناطة» مع أخرى واقعية، ركضت بهذه الحالة، والطائرات تدكّ بيتها في العاصمة العراقية، ولا تختلف شجرات الزيتون في بستان أندلسي مع أخرى في حقل فلسطيني، ومفاتيح الدور التي علقت في الرقاب، تمتد من «الثلاثية»، وحتى «الطنطورية»، لتظل شاهدة على الحكايتين، وتروي بصمت قصص أصحابها، وكذلك أوصاف الدور التي كانت مسوّرة بالجمال والحياة.

كانت الراحلة رضوى عاشور مهمومة بالماضي والحاضر، لا تفر منهما، تصل ما بين الأمس واليوم، حالمة بأن يكون الغد أفضل، أو أن يتجنب الغد مصيراً مشابهاً للأمس واليوم، بحثت بإبداعها عن أجوبة للماضي الملتبس، وللحاضر الأشد تعقيداً، حاورت شخصيات متخيلة، وصوّرت بقلمها المتفرد مآسي مركبة، ورسمت خارطة إنسانية مزدحمة بالتفاصيل الحياتية من الحاضر والماضي. كسرت رضوى عاشور التي حازت العديد من التكريمات، ومن آخرها جائزة سلطان العويس، قاعدة «الأكاديمي أولاً.. المبدع ثانياً»، سلكت درباً وحدها، وحققت المعادلة الصعبة التي لم يفلح فيها كثيرون من الأكاديميين الذين يعلو نتاجهم البحثي على الإبداعي، فرضوى عاشور التي اهتمت بالأبحاث ورسائلها العلمية، وكذلك تربية جيل من الباحثين والدكاترة، تعدّدت ثمارها الإبداعية، وحققت مقاماً خاصاً في المشهد الإبداعي، ليس بعمل واحد، وكان يكفيها ملحمة «ثلاثية غرناطة»، بل بأعمال عدة تحتفظ بقيمة كبيرة في المكتبة العربية، من بينها «الطنطورية»، و«سراج»، و«حجر دافئ»، و«قطعة من أوروبا»، وغيرها من الروايات والقصص التي عرفت القارئ إلى مبدعة شديدة الخصوصية.

الأكثر مشاركة