على أعمدة التفاصيل الصغيرة، يشيّد أورهان باموق كتابه «ألوان أخرى»، يتحدث مثلاً عن حكايته مع التدخين، وأول ساعة يد اقتناها وهو في الـ12 من عمره، ويتتبع نورساً على سطح بيت مواجه لمكتبه، وثانياً يحتضر على الشاطئ.

«ألوان» أورهان باموق

بعيداً عن الرواية، وليس عن السرد المشوق، يعرض صاحب نوبل 2006 المبدع أورهان باموق في كتابه «ألوان أخرى» أفكاراً وصوراً وشذرات من الحياة، ومشاهد من الذاكرة، قد تكون منطلقة من جنازة الأب، أو من مطالعة كتاب، أو حتى من بحث عن دواء لا يجده الكاتب التركي سوى في الأدب.

لمشاهدة الموضوع بشكل كامل، يرجي الضغط علي هذا الرابط.

ملامح كثيرة من سيرة النفس والعقل، تحضر في الكتاب، يستدعيها صاحب «اسمي أحمر» ، مشيراً إلى الكتاب «العظام» الذين يعود إليهم مرات ومرات، وعلى رأسهم تولستوي ودوستويفسكي وتوماس مان، ممن ظلوا يكتبون أكثر من 50 عاماً، وأمدوه هو شخصياً بـ«الدواء الجيد الصادق القوي المفعول» من الأدب، ولذا فهو يحلم بأن يكون مثل هؤلاء، وأن ينال طول العمر حتى يكتب مثلهم لأكثر من نصف قرن.

ولا ينسى باموق أن يخصص مساحة لأبيه، راوياً مشهد الختام، ولحظات النهاية ليجد نفسه يحكي لسائق تاكسي عن ذلك الأب: «لم يوجّه إليّ أبداً كلمة تحقير، لم يشتمني، لم يضربني.. عندما كنت طفلاً كان والدي ينظر بإعجاب ملء القلب إلى كل صورة كنت أرسمها، وعندما كنت أسأله عن رأيه، كان يتفحص كل خط وكل نقش وكأنما هي لوحة من اللوحات النادرة، وكان يضحك بمرح صاخب على كل نكتة أقولها مهما كانت بلا طعم أو مغزى». ولم يغب الأب حتى عن كلمة نوبل التي ألقاها باموق خلال التكريم، إذ كانت بعنوان «حقيبة أبي»، التي منحها له والده قبل رحيله بعامين.

على أعمدة التفاصيل الصغيرة، يشيّد أورهان باموق كتابه الذي ترجمته سحر توفيق، وصدر عن دار الشروق المصرية، يتحدث مثلاً عن قصته مع التدخين، ومحاولاته للإقلاع عن تلك العادة، ويفصّل حكاياته مع ساعات اليد، وأول واحدة اقتناها في عام 1965 وهو في الـ12 من عمره، ويتتبع نورساً على سطح بيت مواجه لمكتبه، وثانياً يحتضر على الشاطئ.

وكالعادة لا تغيب معالم إسطنبول عن الكتاب، فثمة ذكريات خاصة مع هذه المدينة التي خلدها باموق في كثير من أعماله، وكان لا يرى أنه يستطيع العيش إلا فيها، على الرغم من تنقلاته المتعددة، وهنا يذكر أن «تاريخ إسطنبول هو تاريخ الحرائق والخراب.. لم أكن كبيراً بما يكفي لأكون شاهد عيان على الحرائق والدمار الذي لحق بأحياء كاملة، كان ما شاهدته هو النيران التي دمرت القصور الخشبية الأخيرة، وقد وقعت تلك الحرائق في ظروف غامضة في منتصف الليل»، وبسرد لا يخلو من التحسّر يتحدث باموق عن مشاهد قديمة من مدينته وذكرياته عنها: «المدينة المكوّنة من الروائح والأضواء والألوان التي تشكل أغلى ذكرياتنا». ومن المدينة إلى عَبّاراتها التي تجوب البوسفور، والتي حفرت في وجدان باموق، حتى إن لوحاته الأولى كانت ترسم تلك السفن ولا تنسى دخانها الذي ينطلق ويتشتت في السماء.

عن مباهج القراءة، يخصص باموق المولود عام 1952 صفحات في «ألوان أخرى»، مشيراً إلى أن أول القصص التي طالعها كانت تعود إلى «ألف ليلة وليلة» وهو في السابعة من عمره، لافتاً إلى نفوره بعد ذلك من «ألف ليلة»، حتى عاد إليها في مرحلة تالية، وقدّر ذلك العمل، وعن ذلك يقول: «لم أستطع أن أشعر بالدفء في قراءة (ألف ليلة وليلة) إلا عندما قرأتها للمرة الثالثة.. ورأيت الآن أنه بحر عظيم من القصص، بحر بلا نهاية، وما أذهلني هو طموحها، وهندستها الداخلية السرية.. طعم الشارع الخلفي لهذه القصص هو أشد ما أعجبني، في النهاية فيها التفاصيل الشريرة نفسها التي استهجنتها من قبل.. وهكذا في قراءتي الثالثة استطعت، أخيراً، أن أقدر (ألف ليلة وليلة) عملاً فنياً».

«مذكرات دوستويفسكي»، وكذلك «شياطينه» و«الإخوة كارامازوف» حاضرة في وعي باموق، ولذا يفرد مساحات في كتابه للروائئ الروسي الراحل دوستويفسكي، ويعرض لقراءاته الأولى لذلك الكاتب، وأيضاً لكل من ألبير كامو وبورخيس وماريو فارجاس يوسا وسلمان رشدي، وسواهم من الأدباء الذين استوقفوا باموق.

لا تغيب الأحداث الكبرى، ولا الإسقطات السياسية عن مبدع «القلعة البيضاء» و«ثلج»، إذ يصف ردود فعل بعض الأتراك على أحداث 11 سبتمبر، ومشاهد انهيار برجي التجارة، يحكي عن أناس بدوا «غير متأثرين بشدة بتلك المشاهد.. وفي لحظة معينة أحسست برغبة في الوقوف وأن أقول: أنا أيضاً عشت ذات يوم بين تلك المباني، تجوّلت وأنا مفلس في تلك الشوارع، التقيت مع أناس في هاتين البنايتين، قضيت ثلاثة أعوام في تلك المدينة».

يعرب الكاتب التركي عن غضبه من أولئك الذين يحاولون تصوير الأمر على أنه رد فعل من الغاضبين، مندداً بمن يذيلون دوماً استنكارهم للإرهاب بكلمة «ولكن».

الأكثر مشاركة