«طريق الأذى».. «القاعدة وداعش» والذبح
بكثير من التشويق، ومقدمة ملتهبة، تمتزج فيها «القاعدة» بـ«الجزيرة» بـ«الخبطة الصحافية»، يستهل الإعلامي، يسري فودة، كتابه الجديد «في طريق الأذى.. من معاقل القاعدة إلى حواضن داعش»، كاشفاً عن كواليس تحقيقات استقصائية شغلت كثيرين، خصوصاً ما يتعلق منها بلقاءات العقول المدبرة لتفجيرات 11 سبتمبر، التي هزت العالم، وليس أميركا فحسب.
سيرة إعلامي يسري فودة، كما ورد في التعريف به على غلاف كتاب «في طريق الأذى»، إعلامي مصري، حصل على بكالوريوس الإعلام من جامعة القاهرة، والماجستير في الصحافة التلفزيونية من الجامعة الأميركية في القاهرة عام 1992. ودرس الإعلام التلفزيوني فيهما. التحق بالفريق المؤسس لتلفزيون هيئة الإذاعة البريطانية (بي.بي.سي)، ثم بقسم الشرق الأوسط في تلفزيون وكالة أنباء «أسوشيتدبرس»، قبل أن يسهم في تأسيس مكتب قناة الجزيرة في لندن عام 1996. فتح برنامجه «سري للغاية» آفاقاً جديدة لصحافة التحقيقات الاستقصائية في العالم العربي، ونال عنه العديد من الجوائز. عاد إلى مصر قبل ثورة 25 يناير وأسهم من خلال برنامجه «آخر كلام» في صعود قناة «أون تي في» وفي تطوير مفهوم مهني للبرامج الحوارية.
صور ووثائق لم يكتف الإعلامي يسري فودة في كتابه بالكلمة وسرده الروائي، إذ عمد إلى الصورة، فضمّن «في طريق الأذى» صوراً عدة ووثائق تبرز تفاصيل ويوميات من رحلتيه ما بين كراتشي الباكستانية والعراق ودروب المهربين. حاول فودة أن يروي التجربة، مع المحافظة على مهنية الإعلامي أحياناً، حاول أن يصفي قلمه في الكثير من الصفحات ليصف ما كان، بينما سيطرت عليه في صفحات أخرى حالة من الاستسلام لـ«فكرة المؤامرة»، ونظرية من يحرك عرائس «الماريونيت» من وراء الستار. |
تبدأ رحلة صاحب «سري للغاية» و«آخر كلام»، في كتابه الصادر عن دار الشروق في 233 صفحة، مع «القاعدة»، وتنتهي في حواضن «داعش»، وبينهما ثمة مشاهد ذبح، وحرق لآلاف الأنفس، على أيدي أولئك الإرهابيين الذين التقى يسري فودة أكبر رؤوسهم في مدينة كراتشي الباكستانية (خالد شيخ محمد ورمزي بن الشيبة)، وأيضاً في مناطق أخرى من عواصم ومدن مختلفة، وأحدهم، خالد شيخ محمد، تباهي بذبح صحافيي غربي، وقطع رقبته، في مشهد يمارسه كثيرون من أتباعهم اليوم بتلذّذ ينمّ عن نفوس خربة مجردة من الإنسانية.
سلّم ذلك القائد العسكري بتنظيم القاعدة شريطاً يصور مشهد قطع رقبة دانييل بيرل إلى يسري فودة، وشاهد الإعلامي المصري بعد العودة من كراتشي الشريط مرة واحدة كانت كافية أن تحرّمه النوم ثلاثة أشهر، على حد وصفه،
كان ذلك لشخص واحد، وليس لـ21 شخصاً ذبحوا، أخيراً، على أيدي من تخرجوا في مدرسة إرهابيي «القاعدة»، و«داعش» في ليبيا، حرصوا على إخراج ذلك المشهد الأخير بشكل هوليوودي، ليحرموا عائلات فقيرة في صعيد مصر، ليس النوم فحسب، بل أغلى ما يملكون، وهم أبناؤهم «الغلابة» الساعون وراء «لقمة عيش» مغمّسة بعرق الجبين، في بلد مملوء بالمخاطر.
رؤوس الإرهاب
لم يكن شريط الذبح «الغنيمة» الوحيدة التي عاد به يسري فودة من كراتشي ولقاء رؤوس الإرهاب، فثمة وثائق أخرى من بينها خطاب على لسان أحد أعضاء تلك الجماعة، يعدّ شهادة من الداخل على هؤلاء، تصف صدمة ذلك الشاب في من اعتبرهم «مجاهدين أتقياء»، ففي معسكرات التدريب لا يأمن الشاب صاحب الرسالة حتى على مصحفه، خصوصاً بعد أن سرقت ساعته، لافتاً إلى ماضي هؤلاء الإجرامي، وحياتهم الحافلة بالعقد النفسية والتناقضات، والبحث عن منافع، وعدم التورع عن اقتراف أي شيء.
ينقل يسري فودة في كتابه رسالة ذلك الشاب «القاعدي» إلى أخيه: «أخي الحبيب عبدالرحمن.. وجودي مع هؤلاء الناس هنا قد زعزع إيماني بعقيدتي وبجدية الجهاد، فطبعهم شرس وماضيهم مليء بالأعمال الإجرامية، حتى بعضهم لا يستطيع قراءة القرآن. من جهة التدريب فإنني أعتبر أفشل وأبطأ الموجودين، فكل يوم نتدرب على استعمال السلاح، وكذلك نتدرب على السرقة والكذب وممالقة الآخرين.. فتصور عليَّ أن أخبئ أغراضي الشخصية، خصوصاً المصحف الذي أهديتني إياه، حتى لا يختفي مثلما اختفت ساعتي في أول أسبوع وصلت فيه إلى المخيم! كذلك نتدرب (على) كيف نختلط بالنصارى وكيف نقلد حياتهم اليومية، فعلينا أن نتعلم شرب الكحول وحلق الذقون!».
يركز يسري فودة على نقل بعض أدبيات أولئك الإرهابيين، وتوظيفهم لـ«الضرورات تبيح المحظورات»، وكيف أمره وسيطهم حينما نزل كراتشي ألا يصلي الجمعة، وكذلك يلفت إلى ممارسة بعض من قادوا هجمات 11 سبتمبر حياتهم لأقصى مدى، كنوع من التمويه، ووسيلة لخداع الآخرين، مستشهداً بسيرة زياد الجراح الذي كان له صديقة ويعيش حياته «بالطول والعرض»، في مشهد يستدعي نظيراً له في حكاية مهاجمي مجلة «تشارلي إبدو» الفرنسية.
يسرد صاحب «في طريق الأذى» العديد من الحكايات والأسرار، يروي حكاية الشرائط التي صورها لرؤوس القاعدة في مدينة كراتشي، وما تعثرت به بعد ذلك، إذ رفض التنظيم تسليمها مباشرة إليه، ووعده أن يرسلها بعد إجراء بعض التعديلات فيها من قبل مختصيهم (ثمة دائماً أذرع إعلامية ومختصون لديهم كشركة السحاب، وأخيراً الحياة التي أخرجت شريط ذبح العمال المصريين في ليبيا). المفارقة التي كانت في انتظار يسري فودة بعد ذلك أن من وقعت بيده الشرائط، والوسيط الذي كان من المنتظر أن يكون «نزيهاً»، طالب بمبلغ مليون دولار، دعماً لـ10 «مجاهدين» تقطعت بهم السبل، لكن يسري فودة رفض ذلك «الابتزاز» ومن وصفهم بأنهم «مافيا على الخط»، بينما كان هناك في «الجزيرة»، بل وفي أعلى مواقع القرار، من آثر الدفع في سبيل تلك الغنيمة الكبرى، والسبق الإعلامي المستحق من وجهة نظر القناة ومن يديرونها، ما جعل يسري فودة يقول لرئيس مجلس إدارة القناة: «أومال ليه بقى عمالين تقولولي ما عندناش ميزانيات ما عندناش ميزانيات؟».
في النهاية وصلت الشرائط إلى يسري، دونما دفع، أو هكذا بدا الجزء الظاهري في الحكاية، وربما يكون هناك من دفع من أجل عدم التفريط في ذلك «الصيد الثمين» الذي كان من أبرز ما اعتمد عليه يسري فودة في تحقيقه الاستقصائي «سري للغاية»، والذي تصدر عناوين وكالات أنباء وفضائيات عالمية، إذ كشف عن رؤوس القاعدة، واعتراف التنظيم للمرة الأولى بمسؤوليته عن الهجوم الإرهابي، ومع ذلك ظل البعض غير مصدق للرواية، وهذا ما وضحه يسري فودة بقوله في مقدمة الكتاب: «لايزال كثيرون يسألونني حتى اليوم إن كانت (القاعدة) حقاً هي التي تقف وراء عمليات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول. وإجابتي، من واقع ما أتيح لي من تجربة خاصة، لاتزال هي هي: ليس لدي شك في أن تنظيم القاعدة هو الذي أراد ففكر فخطط فجند فدرب فمول فأرسل فنسق فمضى في تنفيذ ما أراد. ما حدث في ذلك اليوم نفسه، وفي السنوات القليلة التي سبقته في أميركا، وهو الذي يحتاج إلى مزيد من التحقيق».
الجزء الثاني
لم تنته حكاية الكتاب مع «القاعدة»، إذ يخصص يسري فودة الجزء الثاني لتسلله إلى العراق، ومحاولته إجراء تحقيق حول الحاصل فيه، والتهريب والمتطوعين للانضمام إلى المقاتلين هناك في عام 2006، ويصف الإعلامي ذلك بأنه «رحلة إلى المجهول»، وفي الطريق إلى ذلك يعرج على «تورا بورا لبنان» ومقولة أحد السلفيين: «لقد قلت لك مراراً إن العربي الكافر عدو لنا، وإن البريطاني المسلم أخ لنا». لكن لا يذكر فودة الذي مرّ سريعاً على العديد من المقولات، كيف يحكم ذلك السلفي ومن على شاكلته بـ«كفر» ذلك العربي، وهل شق عن صدره حتى يتبين إيمانه من عدمه؟ لكن يبدو أن ذلك من أدبيات تلك الجماعات المتشددة التي ترى جميع المخالفين «كفاراً».
لا تغيب سورية عن المشهد في كتاب يسري فودة، فهي سكة التسلل إلى «حواضن داعش» في العراق، إذ ينجح الإعلامي في الوصول إلى مبتغاه، ولكن في طريق العودة، يقع في قبضة المخابرات السورية، ويتعرّض للتوقيف والاستجوابات، ولكن يفرج عنه بعد حين، عقب وساطات واتصالات وربما تفهمات كانت حاضرة في عام 2006. ويخلص فودة إلى أن الطريق كانت معبّدة لما حدث بعد ذلك في بلاد الشام «قبل خمس سنوات من بداية انفتاح بطن سورية، يعني الوضع في سورية لا يختلف جوهرياً عن الوضع في العراق (قبل الغزو)، والمقدمات التي ساقت إلى الحالة العراقية متوافرة بكاملها في سورية».
ترك «الجزيرة»
في كتابه يسرد يسري فودة فصله الأخير مع قناة «الجزيرة» بشكل سريع، يلخص حاله معها، وكذلك حال آخرين، رأوا في النهاية أن القناة انحرفت عن المسار. يقول فودة في شهادة سريعة عن القناة بين عهدين: «في ما يخص قناة الجزيرة، فقد أتت نقطة التحول في مسيرتها المهنية، من وجهة نظري، بعد فترة وجيزة من قصة (القاعدة)، تحديداً مع الغزو الأميركي للعراق. وقد بدأ هذا الأمر بذبح المدير العام للقناة، محمد جاسم العلي، الذي يشهد له الجميع بالكفاءة المهنية والإدارية، واستقدام من لا حيثية مهنية ولا إدارية له في مكانه، سوى أن له خلفية إسلامية وأنه كان مقرباً من بول بريمر، حاكم العراق بعد الغزو، وفقاً لما قاله لي مصدر أميركي أثق به واحتفظ باسمه حماية له. بدأت ما أسميها مرحلة الاستثمار السياسي للجزيرة، سواء من قيادة بلدها أو من دوائر أخرى، بعد أن كانت قد وصلت بعد سنواتها الأولى من التحديات الشاقة إلى مرحلة النضوج، على أيدي مجموعة متميزة من الإعلاميين العرب.. حاول عدد من هؤلاء بطرق مختلفة التمسك بما كانت عليه الأمور، لكنهم فشلوا فاستقالوا لأسباب ظاهرية متباينة، وكنت واحداً من هؤلاء».