سليمان فياض.. «أصوات» الستينات
صوت آخر من أبرز «أصوات» جيل الستينات في مصر يخفت، يصمت صاحبه بعد 86 عاماً حافلة بالقص والتعريف بعلامات مضيئة في التراث، وكذلك رحلة طويلة مع اللغة العربية، التي كان أحد العارفين بأسرارها، ومن أوائل المشاركين في تعريب برامج الحاسوب، وإعداد قاموس ضخم حلم بأن يصدر في طبعة شعبية للحميع.. إنه الكاتب سليمان فياض، الذي رحل مع غياب فبراير الماضي.
لمشاهدة الموضوع بشكل كامل، يرجى الضغط على هذا الرابط. |
«عطشان يا صبايا»، و«بعدنا الطوفان»، و«وفاة عامل مطبعة»، و«لا أحد»، و«القرين».. بعض أعمال سليمان فياض القصصية، لكن لعل الأكثر شهرة هو «أصوات»، التي اعتبرها البعض من أهم الروايات العربية، وواحدة من الأعمال التي وضعت صاحبها بجوار أهم مبدعي الرواية، وترجمت إلى العديد من لغات العالم، وتصور شكلاً ما من أشكال «الصراع بين الشرق والغرب»، بصورة مختلفة عن المعهود، وما تم تناوله من قبل في روايات عدة، لعل من أبرزها «قنديل أم هاشم» ليحيى حقي، و«عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم، و«موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح.
على صعيد الشهرة والذيوع الجماهيري، ربما لم ينل سليمان فياض حقه، ولم يُحطْ بهالة تفخيم تمتع بها كثيرون من أبناء جيل الستينات في مصر، لكن الكاتب الراحل كان صاحب مقام خاص يقدره من تابعوا مسيرته، واطلعوا على إبداعاته التي تنوعت بين فنون عدة، أبرزها القصة القصيرة، والروايات التي لا تعرف الثرثرة، وتضع كل كلمة في محلها، لذا حاز العديد من الجوائز والتقديرات التي يأتي على رأسها جائزة سلطان العويس الثقافية الإماراتية في دورة 1992-1993.
«لا مبالغة في ما سأقوله الآن: لولا سليمان فياض لما نشرت كلمة مما كتبت، لا أدين له فقط بنشر أول أعمالي المطبوعة التي قدمتني إلى القراء، بل أدين له بأنه أقنعني (أو الأصح أرغمني) على أن أدخل في التجربة».. بهذه الكلمات قدم واحد من أهم جيل الستينات في مصر، وهو المبدع بهاء طاهر، بعض ما أسداه فياض إليه، مسلطاً الضوء على علاقته به وذكرياته معه، وذلك في مقال تأبيني نشر في العدد الأخير من «أخبار الأدب» المصرية.
يتطرق صاحب «قالت ضحى»، و«الحب في المنفى»، إلى «جانب الإنسان» في شخصية فياض، واللقاءات التي جمعته به على مقاهي القاهرة، إذ كانت تتلاقى صحبة أدبية تضم كتاباً مصريين وعرباً، على رأسهم الروائي الأردني غالب هلسا، وكذلك رفيق درب سليمان فياض وزميله بالأزهر الكاتب أبوالمعاطي أبوالنجا، وعلاء الديب وعلي شلش.
يكشف بهاء طاهر عن أن فياض دخل إلى فلسطين عام 1948، وشارك في حرب الفدائيين، مضيفاً: «تنكر الطالب الأزهري في زي جندي، وركب القطار مع الجنود المصريين حتى الحدود المصرية، وساعده الجنود الذين عرفوا قصته... ولم يكن سليمان يتوقف طويلاً عند هذه المغامرة الفريدة، بل كان يحكي بمرارة عن أن أسلحة المتطوعين الصغيرة كانت عاجزة عن أن تنال من تحصينات مستعمرات الصهاينة المدججة بالسلاح».
يتماسّ كتاب «أيام مجاور» لسليمان فياض، بصورة ما مع كتاب «الأيام» لطه حسين، فثمة معاناة طالبين أزهريين، يتمردان على مناهج عتيقة، وطرق تدريس من القرون الوسطى، غير أن «أيام مجاور» لا يتجاوز سبع سنوات من عمر فياض على خلاف «الأيام»، التي تناولت سنوات طويلة من حياة عميد الأدب العربي منذ الميلاد وحتى مرحلة طويلة. ينشد سليمان فياض، الأزهري ابن الأزهري، في «أيام مجاور» أن يقول إن عالم «مشايخ الأزهر» والمجاورين وطلبة العلم الديني «عالم بشري، مثل عالم كل الناس، فيه الخير والشر، والفقر والغنى، والعدل والظلم... تماماً كما في كل عوالم الناس، لا قداسة فيه لأحد، وإن تألق وتزيّا، وحمل مسبحة، وقصّر ثوباً، وطبع زبيبة على الجبين، فالكل معلق من عرقوبه كما نقول، رهين بعمله لا بصورته بين الناس»، مشيراً إلى أن «أيام مجاور» «قسم من ماضيّ الحي أعود فيه إلى كهوف عمري، وكان مسرحه مساكن وشوارع وحارات مدينتين، وزمنه سنوات من الضياع، وأبطاله الأساسيون من الأهل والجيران والمشايخ، سبع سنوات عجاف بالمعاناة، سمان بالذكريات». يتتبع الكتاب سنوات من عمر صاحبه، ويكشف عن جوانب من شخصيته التي تمردت على «العمامة»، ويعرف القارئ بتفاصيل من تلك المرحلة التاريخية، ويأخذه في رحلة مشوقة، بعيداً عن القاهرة وحتى القرية المصرية، فثمة مدينتان في الظل (الزقازيق والسنبلاوين) تحضران في الكتاب السردي، ويخلدهما قلم الراحل سليمان فياض.