تشارلز بوكوفسكي يدمّر الحذر في الرواية والقصيدة
«مكتب البريد».. فصول جريئة من سيرة «فوضوي»
بروحه المتمردة، وقلمه المهشم للسائد، وصراحته الصادمة التي لا تعبأ بالحذر الإبداعي، يطلّ الكاتب الأميركي الراحل هنري تشارلز بوكوفسكي في روايته «مكتب البريد»، التي تستحيل إلى فصول جريئة من سيرة شاعر، غلّفت الفوضى حياته، وملأ الصخب قصائده، والغضب حكاياته، ما جعل مترجمين عرباً لا يقتربون منه إلا على وجل، ويكتفون بمختارات قليلة، رغم أن له مكتبة زاخرة، أحصت 60 عملاً، منهم مترجمة رواية «مكتب البريد» ريم غنايم.
لا إهداء يمارس بوكوفسكي هوايته في كسر المألوف، منذ استهلال «مكتب البريد» التي ترجمتها ريم غنايم، إذ يفاجئ القارئ بأن العمل بلا إهداء، وأنه من نسج الخيال، ولا يتناول جزءاً من سيرة الكاتب ذاته: «هذا العمل من وحي الخيال، وليس مهدى إلى أحد». |
اشتهر بوكوفسكي (1920 – 1994) بأنه «كاتب تخريبي»، يحمل جين التمرد الذي يرفض السير وراء الاتجاهات السائدة، حتى خطّ لنفسه مدرسة، وترك بصمة خاصة، والمفارقة أنه لم يكن مرضياً عنه في وطنه، على الأقل خلال البدايات، بينما حاز شهرة كبيرة في قارته الأم أوروبا، التي اعتبرها أكثر تقبلاً للجديد، بينما أميركا «بلد لا يحب المجازفة، ولا يذهب بعيداً في خلق صور تعبير جديدة فنياً.. أظن أن الجمهور الألماني أكثر انفتاحاً على المغامرة وعلى سبل التعبير الجديدة، لماذا، لا أدري، يبدو أنهم هنا في أميركا يفضلون أكثر الأدب الآمن والثابت».
لا تضرب رواية «مكتب البريد» بعيداً في حياة بوكوفسكي، الذي ولد في ألمانيا عام 1920 لأم ألمانية وأب هو جندي أميركي من أصول بولندية، وبعدها بثلاث سنوات انتقلت العائلة إلى بالتيمور في الولايات المتحدة، إذ تكتفي الرواية (السيرة) بفترة متقدمة إلى حد ما، خلال عمل بوكوفسكي في البريد لسنوات على مديين زمانيين مختلفين (1952 - 1955)، و(1958 - 1969)، وداخل مكتب البريد وخارجه تبدو شخصية ذلك المتمرد ولغته ومغامراته، مناكفاته مع الآخر، رئيساً كان أو زميلاً في العمل أو حتى صديقة أو زوجة لم يستمر معها طويلاً، إذ لم تتحمل الأخيرة التي أنجبت منه طفلة مواصلة الحياة مع شخص مغرم بالمراهنات ومدمن على الشراب.
بطل «مكتب البريد» هنري تشيناسكي، هو صاحب الحكاية البديل، المجنون الآخر الذي يتوارى خلفه الراوي الأصلي وصاحب السيرة بوكوفسكي، بوجه محايد يطل ذلك المغامر الباحث عن وظيفة ما، يعمل مساعداً في مكتب البريد، وبعدها ساعي بريد مناوباً، والمفارقة التي يسوقها الكاتب المتمرد على كل المواثيق في بداية الرواية هو «ميثاق أخلاقيات المهنة»، وما ينبغي مراعاته من التقيد بقوانينها، ولا يلبث ساعي البريد الجديد أن يشتبك بمديره في العمل، بعدما اشتمّ الأخير تمرده، فحاول تجويعه وفرض إجراءات تأديبية عليه.
يدخل الكاتب في تفاصيل المهنة، بداية من فرز الرسائل ونوعياتها، كيفية توزيعها، والمفاجآت غير السعيدة التي تنتظر سعاة البريد: «كان لكل طريق كمائنه، ووحدهم السعاة المنتظمون يميزونها، كل يوم هناك يخبئ شيئاً جديداً، وكنت دائماً تتهيأ لاغتصاب، لجريمة، لكلاب، أو لضرب من الجنون. لم يكن المنتظمون ليخبروك شيئاً عن أسرارهم الصغيرة، كانت هذه ميزتهم الوحيدة عدا عن حفظهم صناديقهم غيباً، كان الأمر محمساً، خصوصاً بالنسبة إلى رجل شرب طوال الليل، ونام في الثانية صباحاً، ونهض في الرابعة والنصف صباحاً».
ويسلط بوكوفسكي الضوء على دهاليز المهنة ومشاقها، ليس خلال المرحلة الأولى، بل حتى في المرحلة الثانية الطويلة، والتي كان فيها موظفاً موكلاً بفرز الرسائل، وليس ساعي بريد جوالاً في الشوارع، إذ يكشف أن زملاء المهنة لم يتحملوا، وبعد قرابة 12 عاماً لم يصمد سوى اثنين من 150 شخصاً، متخذاً من ذلك مدخلاً لتعرية قسوة الواقع وما يحفل به من تناقضات: «الأمان؟ الأمان موجود في السجن. ثلاثة أمتار مربعة، دون أجر شقة، دون حسابات، دون ضريبة دخل، دون نفقة أولاد. دون رسوم ترخيص. دون تقارير مرور. دون غرامة حتى في حالة الثمالة. دون خسارات في سباقات الخيل. العلاج الطبي مجاناً». ووصفت المترجمة ريم غنايم الكاتب بوكوفسكي في مقدمة الرواية قائلة: إنه «بطل الهامش بجدارة، وكاتب من كتاب (الأندرغراوند) الذي لم يكن يوماً ابن المؤسسة، وهو فنان فضل أن يظل حراً شريداً في الشارع، على أن تمسك المؤسسة النقدية بخناقه، وتؤطر ما يكتبه في قالب يجعل منه كاتباً عبداً لها».
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news