إبراهيم جابر يستكمل طقوس «الوحيد» بـ «صورة جماعية»

مستكملاً طقوس «الوحيد» ونصوصه؛ يطلّ من جديد الشاعر الفلسطيني إبراهيم جابر إبراهيم، بديوان «صورة جماعية لي وحدي»، ولن تخدع «الياءان»، ولا الذاتية فيهما، متابع مسيرة مبدع «متفق عليه»؛ فقد يهزّ رأسه مبتسماً للعنوان المراوغ، ومن بعده للإهداء، وكذلك لـ«وحشة» تتصدّر النصوص، موقناً أن «مرايا» الزميل إبراهيم جابر التي تدّعي في البداية أنها «تتسع لشخص واحد فقط» ستتجاور فيها وأمامها وخلفها الظلال، وفيها ربما سينطوي العالم الأكبر، وينعكس الهمّ الأكبر أيضاً.

عنه

إبراهيم جابر إبراهيم، شاعر وكاتب وصحافي له عدد من الإصدارات المنوّعة في الشعر والقصة والمسرحية والمقالات، منها «وجه واحد للمدينة» (قصص قصيرة، 1994)، و«حديقة الموتى» (مسرحية، 2000)، و«متفق عليه» (نصوص، 2002)، و«الفراشات» (قصص قصيرة، 2003)، و«هذا البيت ليس لي» (نصوص ومقالات، 2003)، و«الوحيد لا شريك له» (شعر، 2011). وحصل إبراهم جابر على عدد من الجوائز، منها جائزة محمد تيمور لأفضل نص مسرحي عام 2000، عن «حديقة الموتى»، و«جائزة فلسطين للصحافة والإعلام لعام 2011»، التي تبرّع بها لأبناء قريته في فلسطين.

ستتمرد حتى على عنوانك يا إبراهيم.. عبارة قد يرددها من يعرف صاحب الديوان؛ وبخيانة إبداعية مستحبة ستتوالد الصور، لتصير «ألبوماً كاملاً» يضم «صور من وعدوني أن لا يقعوا في الأسر»، و«صورة في أريحا» و«صورة مع أبي» و«صورة أمي»، ولقطات من التجربة الطويلة والعمر الحافل بـ«ألف.. لام.. ميم»، لتتآزر الصور في النهاية، محتضنة ذلك الوحيد، صانعة «كولاجاً» وجدارية ممتدة، وليس مجرد صورة جماعية.

من يزعم أنه سيهب الصورة لـ«الوحيد» فقط؛ ولن يلتفت لسواه، يعلم أصدقاؤه أنه بين الشارقة ودبي؛ يزور أريحا ثلاث مرات أو أكثر حسب زحام الطريق؛ وأنه حينما دعي إلى فلسطين لإلقاء أشعاره في رحاب متحف محمود درويش، ظل أياماً يعدّ ثياب اللقاء الأول، والحذاء الخفيف الأنيق الذي «سيبوس» تراب الوطن، لكن حينما تحقق الوعد؛ حافياً دخل واديه؛ تماماً كما غادره رضيعاً: «أمشي إلى أريحا حافياً.. لا علم على بيت أهلي.. وحده اسمي يقودني من يدي الضريرة.. أقلب وجهي في السماء.. كلما رأيت بلداً مضاء قلت: هنا، ربما، ولدتني (هند) ولم تلقني اسم عاصمتي».

«الوحيد» في جديد إبراهيم جابر؛ بيده مفتاح الديوان وهو سيّد الغلاف، كما كان في عمل سابق (الوحيد لا شريك له)، لكنه لن يكون بطل «الحكاية» على طول الخط والقصائد، فثمة آخرون ستتوالى صورهم، ليأخذوا حيزهم في براح «صورة جماعية» يتسع صدرها للكل، حتى ولو ادّعت أنها مهمومة هذه المرة بشخص يربّي كائنات الليل؛ ويرقب أشباحه من وراء النوافذ؛ ينتظر من لا يأتي: «أخرج في الخامسة فجراً، إلى محطة الحافلات، أختار مسافراً وسيماً.. أتدبر له اسماً، ثم أودعه بحرارة.. أعود للبيت وأنتظره».

ويصور حال «الوحيد» نص ثانٍ وثالث وربما عاشر: «كل شيء نظيف ولامع: البلاط الموشح بالأزهار.. النافذة الصغيرة.. أظافري.. ظلي المقرفص على الحائط.. الباب المعدني.. الهواء المكدس.. لا أنتظر أي ضيف؛ لكن كل شيء نظيف كما ينبغي لزنزانة نظيفة!».

بعد حين من الاستهلال؛ يزدحم «كولاج» الصورة الجماعية، يصير أكثر تركيباً وتكثيفاً، وحزناً أيضاً، بعناوين من قبيل: «أنفاس متقطعة»، و«خوف»، و«طمأنينة سامة»، و«دم ناضج»، و«في رثاء الأوقات السعيدة»، وفي الأخير «الحزن ضحك يابس أو سعادات سابقة.. أعود راكضاً.. أعانقني ثم أدس كتفي بين أكتافهم: كم مرة حملنا جنازة هذا الرجل؟».

وفي مقام الحزن الطويل هذا، يحضر رثاء العزيز «زياد العناني»: «سنعود للبيت رجالاً طيبين على ظهور النوايا الطيبة.. أو أطفالاً بلحى بيضاء غير قادرين على الخطأ!.. هل ترى!.. الذي أخذ الطريق يا حبيبي.. سيأخذ أقدامنا أيضاً؛ ويرميها في مغسلة المستشفى مثل يد فأس مثلوم؛ لا تصلح حتى لهش الذباب عن ساقك الثانية!.. سيسرق كل الأفكار السيئة التي كنا نبذل من أجلها أخلاقنا العظيمة! ونجلس هنا؛ بحد العمر تماماً.. نحملق فيه مثل شخص غريب وغير مهذب: أينا الذي وقع في فخ الآخر.. ثم ننهض على ساق واحدة ونقذفه بفردة الحذاء الفائضة!». «صورة» إبراهيم جابر الجماعية، تبدو مرسومة يدوياً على مهل، وليست مطبوعة بشكل آلي؛ ملونة بلغة تكره الصوت العالي والقاموس الرنان، لغة مراوغة تتسلل من الوحدة إلى الزحام، من الأنا إلى الآخر، من «هنا» إلى «هناك»، من المخيم إلى زنزانة الوحدة، من الحزن إلى العشق، من الولد «علي» الذي لم يولد إلى الجد الذي كان «يسرق الكحل من عيون الجميلات»؛ من برواز الصورة الضيقة إلى مدى أبعد بكثير من إطار «لي وحدي». ويقول إبراهيم في «صورة في أريحا»: «لو أن جنود الاحتلال تأخروا ساعتين.. أو أنني كنت نائماً حين دخل الاحتلال.. لو أن الشتاء عطل حركة الطائرات.. أو لو أن أبي آمن أن البلاد كالأعمار بيد الله.. لكنت الآن عاملاً أسقي المزارع في بيت لحم؛ أو بائع لوبياء وكستناء ولي طفلتان سمراوان من زوجة سمراء.. وربما كنت الآن أراسل صديقاً في كندا لينتشلني من سخونة أريحا.. لو أن الجنود ناموا ساعتين إضافيتين.. كنت كبرت على مهلي، وتأملت كلام أبي لشقيقه: خذني بعيداً من هنا.. أريد أن أطل علي وأنا أسقط عن ظهر هذا الحصان».

الأكثر مشاركة