رحيل الراوي بـ «أفواه الزمن»

غاليانو.. دقت ساعة نهاية منفاي

غاب صاحب «أفواه الزمن» و«مرايا.. ما يشبه تاريخاً للعالم»، و«كلمات متحوّلة».. أحد «حكماء» أميركا اللاتينية، وسيد من سادة الكلمة المهمومة بـ«ملح هذه الأرض».. الكاتب الأوروغواياني إدواردو غاليانو، الذي رحل أول من أمس، عن 74 عاماً.

ما يشبه «الأرابيسك» الذي يمزج بالكلمة بين الفنون، فلكوراً وشعراً وسرداً وتصويراً ونحتاً باللغة، كانت كتابات غاليانو التي تجمع بين تكثيف الشعر، وتشويق حكايا وأساطير قصيرة، أبطالها هامشيون: «اللا أحد» أو «اللامرئيون» من قبل كثيرين، بينما كان هؤلاء «اللامرئيون» هم من خلدتهم كلمات غاليانو، وليس مبالغة حكمه السريعة المتناثرة في كتبه التي نقل الكثير منها إلى «العربية».

«مرايا» إدواردو غاليانو «ممتلئة بالناس.. اللامرئيون يروننا.. المنسيون يتذكروننا.. عندما نرى أنفسنا نراهم وعندما نغادر هل يغادرون».

ولد إدواردو غاليانو، الذي وضعه النقاد في منزلة أبرز كتّاب أميركا اللاتينية، مثل غارثيا ماركيز ونيرودا وإيزابيل الليندي، في مونتفيديو عاصمة أوروغواي عام 1940 وعمل صحافياً ورساماً كاريكاتورياً في العديد من الصحف، وقد سجن بعد الانقلاب العسكري في عام 1973 وانتقل للعيش في المنفى في الأرجنتين، ومن ثم إسبانيا قبل أن يعود إلى الأوروغواي مع عودة الديمقراطية عام 1985. في كتابه «المعانقات» كما العادة، تنحو كلمات غاليانو إلى المفارقات، والحكايا الرمزية، ممزوجة بجانب من السيرة الذاتية، وشخصيات من هنا وهناك: شعراء ومبدعون وأناس عاديون، كل ذلك ممزوج بالسياسة، وتعرية الدكتاتورية والأنظمة المستبدة، كما كان يراها اليساري العتيد غاليانو، الذي دفع ثمن مواقفه غربة طويلة عن وطنه، وعاش بين المنافي لزمن في قارة حافلة بالانقلابات.

بـ«حنين» يحكي عن عودة ما إلى مدينته عاصمة الأوروغواي: «وهكذا سرت لبرهة، متألماً من ذكريات منسية، باحثاً عن بشر وأشياء لم أجدها أو لم أعرف كيف أجدها، وأخيراً عبرت النهر، النهر الكبير، ودخلت إلى الأورغواي. كان جنرالات الأوروغواي لا يزالون في السلطة، ولكن في نهايتهم. حان تقريباً وقت وداع الإرهاب. دخلت شابكاً أصابعي وكنت محظوظاً. وسائراً في شوارع المدينة التي ولدت فيها، بدأت أتعرف إليها وشعرت بأنني أعود وكأنني لم أغادر مطلقاً: مونتيقديو، في قيلولتها الأبدية على هضاب الساحل المنحدرة، اللامبالية بالريح التي تصفعها وتناديها، مونتيفديو المضجرة والمحبوبة، التي تفوح برائحة الخبز في الصيف والدخان في الشتاء. وعرفت أنني كنت أحن إلى الوطن ولقد دقت ساعة نهاية منفاي. بعد التجول في كثير من البحار، يسبح سمك السلمون بحثاً عن نهره، يجده ويسبح فيه عائداً، تقوده رائحة المياه إلى الجدول الذي جاء منه».

كتب غاليانو العديد من المؤلفات كان أشهرها «الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية»، الذي ترجم للعديد من اللغات، ومن بينها «العربية»، وحظي بشهرة أكبر بعدما أهداه الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو تشافيز إلى الرئيس الأميركي باراك أوباما. ويشكل الكتاب مرافعة قوية ضد استغلال هذه المنطقة منذ وصول طلائع المستعمرين الإسبان،

ويشكل عملاً مرجعياً للفكر اليساري في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، ومن ثم العولمة البديلة. كان غاليانو، مؤلفاً غزير الأعمال التي كانت غالباً ما تحمل صبغة سياسية. وترجمت كتبه إلى لغات. وتوفي عن 74 عاماً، في المستشفى، بعد أن انسحب من الحياة العامة لأسباب صحية في الأشهر الأخيرة.

وأفادت صحيفة «الباييس» الأوروغوايانية بأن غاليانو، الذي حاز العديد من التكريمات لأدبه ومواقفه المناصرة للمضطهدين، توفي متأثراً بإصابته بسرطان الرئة، بعد سنوات من الصراع مع هذا المرض.

مبكراً.. بدأ ادواردو غاليانو مسيرته الصحافية في سن الـ14 من خلال نشر رسوم كاريكاتورية في صحيفة «إيل سول» الأسبوعية التابعة للحزب الاشتراكي، وبين عامي 1961 و1964 أدار مجلة «مارتشا» الشهيرة معقل المثقفين، وتولى إدارة صحيفة «إيبوكا» اليسارية (1964-1966). كان غاليانو مناصراً للشعوب الأصلية والسلام وحقوق الإنسان وتكامل أميركا اللاتينية والتعليم والعلوم والثقافة، إضافة إلى محاربته التهميش والاقصاء الاجتماعي. وعاش مهموماً بقضايا المهمشين واللاجئين، متعاطفاً مع الفلسطينيين وسواهم من المضطهدين والمنفيين من أوطانهم، يقول في كتابه «مرايا»: «ألف مرة ومرة صوتت الأمم المتحدة ضد الاغتصاب الإسرائيلي للوطن الفلسطيني، في عام 1948 استدعى تأسيس إسرائيل طرد 800 ألف فلسطيني. الفلسطينيون المطردون من ديارهم حملوا معهم مفاتيح بيوتهم، مثلما فعل، قبل قرون، اليهود المطردون من إسبانيا. اليهود لم يستطيعوا العودة إلى إسبانيا. الفلسطينيون لم يتمكنوا من العودة إلى فلسطين. ومن ظلوا منهم حكم عليهم بالعيش مذلين في أرض تختزلها الغزوات كل يوم».

للإطلاع على الموضوع كاملا يرجى الضغط على هذا الرابط.

تويتر