فاطمة وأم كلثوم: والدنا لم يكن «سـي السيد»
بالنسبة لي، وربما لكثيرين غيري، يعد اللقاء والحديث إلى فاطمة وأم كلثوم نجيب محفوظ بمثابة إعادة اكتشاف لكثير من التفاصيل والمعلومات، بل هو إعادة اكتشاف للشخصيات نفسها، فالسماع أو القراءة عن بعد لابد أن تختلف، في الغالب، عن اللقاء المباشر. في اللقاء مع أم كلثوم وفاطمة، كانت البساطة والهدوء هما السمة الرئيسة للحوار، فكل الأسئلة مقبولة، والإجابات عفوية وبسيطة، تتداخل الإجابات من الاثنتين فيصعب أن تفصل بينهما في الحديث. الكثير من النقاط والموضوعات طرحتها «الإمارات اليوم» خلال اللقاء الذي جاء على هامش استضافة مؤسسة «بحر الثقافة» لفاطمة وأم كلثوم لحضور الاحتفالية التي نظمتها المؤسسة، أول من أمس، في جناحها بمعرض أبوظبي الدولي للكتاب، للكاتب الكبير نجيب محفوظ، وتحدث فيها الكاتب يوسف القعيد، والفنان عزت العلايلي.
• مشروع لافتتاح متحف خاص بمقتنيات نجيب محفوظ في «وكالة أبوالذهب»، وهو مبنى تاريخي يقع أمام الجامع الأزهر. • لم يكن يناقش أحداً من أهل بيته أو حتى من أصدقائه في عمل يقوم بكتابته حتى ينتهي من كتابته وطباعته. • بعد ثورة 1952، توقف عن الكتابة، لاعتقاده بأنه لم تعد هناك مشكلات، وكرّس نفسه لكتابة السيناريو لمدة خمس سنوات. «أولاد حارتنا»
عن رواية «أولاد حارتنا»، التي أثارت ــ ولاتزال ــ الكثير من الجدل، قالت ابنتا نجيب محفوظ إن الأزهر لم يمنع طباعة الرواية، كما يشاع، لكن السلطة السياسية في ذلك الوقت رأت ما تحمله الرواية من بعد سياسي، فأوعزت إلى الأزهر أن يتعامل معها، وبالفعل تم تحديد موعد لإجراء مناظرة بين أحد شويخ الأزهر ونجيب محفوظ، لكن الأخير حضر وتغيّب مندوب الأزهر. وذكرتا أن طباعة والدهما للرواية خارج مصر جاءت نتيجة وعد له مع المتحدث الرسمي للرئيس الأسبق جمال عبدالناصر، والذي نصحه بأن يطبع الرواية خارج مصر، وبالفعل قام بذلك، وعندما عرض عليه أحد الناشرين قبل وفاته بسنوات طباعة الرواية في مصر، اشترط نجيب محفوظ أن يتم ذلك بعد الحصول على موافقة من الأزهر. وقال فاطمة إنها سألت والدها: هل قتل الجبلاوي؟ فأجابها بأن القاتل دخل المنزل في الظلام، وكان هناك خدم، وقتل أحد الشخاص وخرج، ليقول إنه قتل الجبلاوي، لكن هذا ليس حقيقياً. كما أن شخصية «عرفة» التي تمثل العلم، تشير إلى رؤية والدها بأهمية أن يترافق العلم مع الإيمان. |
من لحظة التكريم في السويد، وتسلمهما جائزة نوبل للآداب التي منحت لوالدهما عام 1988، وهي اللحظة الأشهر التي ظهرت فيها أم كلثوم وفاطمة (أو هدى وفاتن كما تعرفان بين الأصدقاء والزملاء في العمل)، أمام العالم، لتختفيا بعدها من جديد. يبدأ الحديث، فتوضح أم كلثوم أن تسلمهما الجائزة لم يكن وارداً، بل كانتا تستعدان لمرافقة والدهما خلال تسلمه الجائزة، لكن نظراً لأنه لم يكن محباً للسفر، قررت الوالدة أن تذهبا بمفردهما لتسلم الجائزة، وجاء هذا القرار قبل موعد الحفل بـ10 أيام فقط. وللترتيب للسفر، زار السفير السويدي وزوجته منزل نجيب محفوظ.
وتكشف فاطمة أنها لم تستطع الاحتفاظ بالزي الذي ارتدته خلال الحفل، وكان زياً مستوحى من أزياء صعيد مصر، موضحة: «اختيار الزي الذي سنظهر به في الحفل تم بمساعدة زوجة السفير السويدي في القاهرة، التي أخبرتنا بأن الزي المسموح به في الحفل هو (السوارية) أو الزي القومي، واقترح سكرتير السفير أن نذهب إلى شهيرة محرز لمساعدتنا في اختيار الأزياء المناسبة، وبالفعل قدمت محرز لأم كلثوم زياً مسوحى من الأزياء البدوية المعروفة في سيناء، بينما قدمت لي زياً من الصعيد مشغولاً يدوياً ومطرزاً بالذهب، ولأنه كان نسخة أصلية ووحيدة، كان عليّ إرجاعه إليها مرة أخرى، ولم احتفظ به». لافتة إلى أنهما تدربتا من قبل على مراسم الحفل، وكان من المقرر أن تتسلم واحدة منهما الشهادة، وتتسلم الأخرى الجائزة، لكن الأمير قام بحركة لمداعبتهما، ما جعلها ترتبك وتتسلم الجائزة والشهادة معاً.
هل كان نجيب محفوظ «سي السيد» في منزله ومع أسرته؟ سؤال يفرض نفسه تلقائياً على الحوار، وتأتي الإجابة سريعاً من الأختين معاً، مؤكدتين أن شخصية نجيب محفوظ في الواقع كانت عكس «سي السيد»، فقد كان ديمقراطياً جداً في التعامل معهما، وكان يعبر عر رأيه، وإذا وجد أن لهما رأياً آخر جيداً، يرحب به، كما كان مجاملاً، رقيق الحديث، محباً للفكاهة، ويتمتع بخفة الدم، وإذا أراد انتقاد تصرف ما لهما، كان يقوم بذلك بأسلوب لطيف، بعيداً عن العنف، فقد كانت شخصيته مثل كتاباته، صريحة، بعيداً عن العدوانية والعنف. بينما توضح أم كلثوم أن ابتعادهما عن الأضواء ووسائل الإعلام طوال حياة والدهما، لم يفرضه الوالد عليهما، كما يعتقد البعض، بل كان بناءً على رغبتهما، واحترم هو هذه الرغبة.
وتضيف أم كلثوم: «كثيرون يعتقدون أن السيد أحمد عبدالجواد تجسيد لشخصية الوالد نجيب محفوظ في الواقع، وأن الست أمينة هي والدته، لكن الحقيقة غير ذلك، فقد كانت والدة نجيب محفوظ تخرج، وكانت تصحبه كثيراً في زيارة المتاحف، وهو ما حبب إليه تاريخ مصر، ويذكر أنها دخلت المتحف المصري، وعندما رأت إحدى المومياوات قالت إنها تشبهها». لافتة إلى أن شخصية كمال عبدالجواد هي الأقرب إلى والدهما في أفكاره
رغم ديمقراطيته في التعامل مع الأسرة، إلا أن نجيب محفوظ لم يكن يناقش أحداً من أهل بيته، أو حتى من أصدقائه في عمل يقوم بكتابته، بحسب ما أوضحت ابنتاه، حتى ينتهي من كتابة العمل ويُطبع وتُنشر، ثم يقدمه إليهما بعد أن يكتب لهما أهداءً عليه. «ماعدا مرتين فقط تحدث فيهما عن عمل قبل نشره، الأولى عندما عرض على ابنتيه ثلاثة عناوين لتختارا منها عنواناً لإحدى القصص، واختارت فاطمة (حارة العشاق)». والثانية عندما تحدث فجأة ودون مقدمات عن روايته «أمام العرش»، وقتها شعرتا بالدهشة من هذا الأمر.
وعلى خلاف المتوقع، اعتبرت فاطمة وأم كلثوم أن المسلسل الذي تم تقديمه عن «ثلاثية نجيب محفوظ» كان أكثر إخلاصاً من الفيلم للروايات الأصلية، فالفيلم أعطى مساحة أكبر لعالم العوالم من المساحة الأصلية في الروايات. وأضافت فاطمة: «في إحدى المرات وجدناه يضحك وهو يشاهد أحد الأفلام المأخوذة عن الثلاثية، وعندما سألناه عن سبب ضحكه، أوضح أن المخرج قدم الحارة في الفيلم تشبه الحارة المصرية في الستينات، رغم أنها كانت تختلف كثيراً عن الفترة التي كتبت فيها أحداث الثلاثية، حيث كانت الحارة تجمع أسراً غنية وأخرى من الطبقة المتوسطة إلى جانب الأسرة الفقيرة، بينما أظهر الفيلم الاسرة تتحدث بطريقة بالطريقة نفسها التي تتحدث بها العوالم، وهذا مخالف للواقع وللرواية». لافتة إلى أن من الأعمال الجيدة أيضاً، والتي قاربت النص الأصلي بقوة، مسلسل «حديث الصباح والمساء»، وفيلم «باقي من الزمن ساعة». كما اعتبرت أن تحويل أعمال والدها إلى أفلام ومسلسلات ساعد على نشرها بين الناس، فجمهور الفيلم أكبر بكثير من جمهور الكتاب. وأضافت: «تجربة الوالد في كتابة السيناريو كان لها دور في تسهيل تحويل أعماله إلى أعمال فنية، وفي فترة من الفترات، بعد ثورة 1952، توقف أبي عن الكتابة، لاعتقاده أنه لم تعد هناك بعد الثورة مشكلات يمكن تناولها في أعمال أدبية، ووقتها كرس نفسه لكتابة السيناريو، وسجل نفسه كسيناريست لمدة خمس سنوات، قبل أن يعود إلى الكتابة من جديد». مشيرة إلى أن الكتابة كانت هي كل حياة والدها، وكان يكتب لحبه للكتابة، وليس طلباً لشهرة أو أضواء، وكان يكتب ويقرأ كل يوم لمدة أربع ساعات، وكان يقرأ في أكثر من كتاب بالتزامن، ويلتزم بنظام دقيق في حياته اليومية، حتى اعتادت ساعته البيولوجية على هذا النظام.
رفض «نوبل»
عن ما تردد عن العرض الذي تلقاه محفوظ لرفض «نوبل»، قالت أم كلثوم إن والدها بالفعل تلقي عرضاً من جهة لم يكشف عنها، عقب إعلان فوزه بجائزة نوبل، ليرفض تسلم الجائزة، وفي المقابل تقوم هذه الجهة بإعطائه المبلغ نفسه الذي كان سيتسلمه من الجائزة، وهو ما رفضه تماماً، مشيراً إلى أنه إذا رفض الجائزة فيجب أن يكون بناءً على موقف يؤمن به، ووقتها سيرفض الجائزة والمبلغ، لكن أن يرفض الجائزة ويقبل مبلغاً مادياً مقابل الرفض، فهو غير مقبول.
وعن محاولة الاغتيال التي تعرض لها والدهما عام 1994، قالتا إنه لم يكن يحب الحديث عن هذا الموضوع، لأنه يمثل ذكرى مؤلمة بالنسبة إليه، ولذلك كانت الأسرة تتجنب الحديث عنها، لكن تم تصوير فيلم فرنسي عنها، أشار نجيب محفوظ إلى أنه اعتقد عندما اقترب منه الشاب الذي حاول اغتياله أنه يريد أن يصافحه، وعندما غرز السلاح في رقبته شعر وكأن وحشاً نشب أنيابه في رقبته، وقال «نفذوا اللي عايزينه». وذكرتا أن وادهما كان يتحلى بعزيمة كبيرة جعلته يتدرب على الكتابة من جديد عقب تعافيه من الإصابة، إلى أن استعاد قدرته على الكتابة من جديد.
وقالت أم كلثوم إن هناك مشروعاً لافتتاح متحف خاص بمقتنيات والدهما، وحديثاً تواصلاً بينهما وبين وزارة الثقافة قبيل ثورة 25 يناير 2011.
اعتزاز بالتكريم
عبّرت فاطمة وأم كلثوم نجيب محفوظ عن اعتزازهما الشديد بالحفاوة الشديدة التي قوبلتا بها في أبوظبي، خصوصاً مع الزيارة التي قام بها صاحب السموّ الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، لجناح المؤسسة مؤسسة «بحر الثقافة» في معرض الكتاب خلال الاحتفالية، حيث رحّب بهما.
وأشادتا بمبادرة مؤسسة «بحر الثقافة» لتكريم والدهما، وباهتمام المؤسسة بتوجيه الدعوة إليهما، معربتين عن سعادتهما البالغة بالاحتفالية التي نظمتها المؤسسة، أول من أمس.
وتسعي فاطمة وإم كلثوم نجيب محفوظ إلى حماية إرث والدهما الكبير، من خلال التنسيق مع وزراة الثقافة المصرية لتأسيس متحف يضم ويحمي إرثه، ويحفظه للأجيال المقبلة في مصر والعالم.