«سهيل».. فاتحة الشهداء
بين أبٍ بيد خضراء تبذر الخير وترعاه، وأمٍّ استحقت اللقب الغالي (أم الشهيد)، كانت حياة صاحب السيرة: الشرطي أول رقم 190 سالم بن سهيل بن خميس، الذي كتب فاتحة التضحيات الإماراتية، وعمّد الاتحاد بدمه المقاوم على جزيرة طنب الكبرى في نهاية نوفمبر عام 1971.
تاريخ موثق يذيل الدكتور عبدالله الطابور روايته «سهيل» بكلمة عن المصادر والوثائق التي استعان بها، واعتمد عليها في العمل، مشيراً إلى أن عملية جمع وتحقيق ودراسة المعلومات التاريخية التي وردت فيها استمرت سنوات طويلة منذ عام 1992 (الرواية صدرت طبعتها الأولى في عام 2007)، مؤكداً أن تلك المصادر شكلت العمود الفقري في بناء التسلسل الزمني، والأحداث والشخوص والمواقع. وأضاف «تنوعت المصادر من وثائق إنجليزية، إلى أرشيف الوئائق المحفوظة لدى حكومة رأس الخيمة، إلى روايات أهالي طنب، وما تحويه من معلومات مهمة ساعدت في ربط الأحداث بتاريخ الحياة في طنب، إضافة إلى روايات الجنود الخمسة، الذين كانوا في طنب أثناء المعركة، وسيناريو سير المعركة الذي حرصت على توثيقه منذ سنوات عدة، من أفواه أبطال طنب شخصياً، ولا أنسى زيارتي إلى منزل الشهيد سالم بن سهيل، ولقائي في سنة 1995 مع أخيه علي بن سهيل، وبقية إخوته وزملائه». |
رغم أن الكلمات تتضاءل أمام الدماء الزكية، ولا تطال بأي حال مقام أرواح ارتقت في موقف بطولة ما؛ إلا أنها في النهاية أهون من الصمت، وأخف من لا شيء، لذا حاول الباحث الدكتور عبدالله الطابور في رواية «سهيل» أن يبرز - بشكل مغاير - حياة أحد من دشنوا التضحيات، وارتبط اسمهم ببذل الغالي، وهو الشهيد الإماراتي سالم خميس، ابن قرية الحدبة التي تتوسط قرى المنيعي الجبلية، في إمارة رأس الخيمة.
من الأرض.. إلى السماء
من الأرض يبدأ المؤلف الحكاية، وإلى السماء تتصاعد، حيث الإشارة الأولى إلى الأب الذي «رأى أنه سيطير إلى فضاء رحب متناهٍ، يموج بالحركة، ويغرس في السماء غصناً أخضر من شجرة تمتد جذورها في السماء»، وتصوّر الرواية على امتداد صفحات استهلالية الأب الذي يعمر ما بين الجبال في قريته النائية بالخضرة والنخيل والسير عكس التيار، فبينما يبحث آخرون عن الربح السريع، يتحرى هو «الحلال»، لذا يبتعد عن زراعة الغليون.
ومن الأب إلى الأم تتحول دفة الحديث، لإبراز وجه مشرق آخر؛ صاحبة أثر، وموجهة لمن سيصير اسمه علماً في ما بعد، إذ غرست تلك السيدة (فاطمة بنت هلال) في ولدها (سالم) حلم أن يكون جندياً؛ يحمي الأرض والعرض، وظلت كلماتها باقية مع الابن حتى بعد أن عمل في مهن مختلفة، وتقلب بين وظائف عدة، إذ يتذكر على البعد كلمات أمه وحكاياتها: «ولت الذكريات التي ولدت من ثنايا التراب المشحون، فعندها وقف سالم بن سهيل باحثاً عن حلمه، وكان لابد له أن يحقق آمال والده البيدار الكبير سهيل بن خميس.. ولم ينسَ وصية والدته فاطمة بنت هلال، وما كانت تقوله له كل مساء عندما يجلس على (السيم) فتقص له وتحكي خراريف خيالية، وحكايات بلون الجبل في شدته وغموضه».
القيمة الأبرز في رواية «سهيل»، للمؤرخ الدكتور عبدالله الطابور، بعد تسليط الضوء على معاني التضحية وكل القيم الوطنية الكبرى، هي في تفاصيلها الإنسانية، وتصوير حياة تلك الأسرة، ومنح من يستحقون حقهم في الخلود والتعبير عن بعض أمانيهم، إذ أفاضت الرواية في الحديث عن الثلاثي الجميل (الشهيد وأمه وأبوه)، حتى إن إهداء «سهيل» كان إلى «روح فاطمة بنت هلال والدة سالم بن سهيل في بداية قيام دولة الاتحاد»، وأيضاً يحضر في الإهداء: «أهالي طنب الكبرى، الذين عاشوا المأساة، وتجرعوا عذاب العدوان وآلام الخروج من موطنهم.. إلى كل الأحرار في زماننا.. حباً وأملاً في حياة خالية من الحروب والمؤامرات».
«عساه سالم»
«عساه سالم».. كان أمل الجميع حينما رأوا المولود الجديد، وبالفعل نال البطل من اسمه نصيباً، إذ إن اسمه باقٍ في وجدان شعبه؛ يرنو إليه الجميع باعتباره نجماً عالياً، كما حال «سهيل» في السماء.
بين يدي المطوع كانت بداية سالم مع التعليم، فحفظ جزءاً من القرآن، ونال حظاً من الدراسة إلى الثالث الابتدائي، ولم تستهوه الأرض مثل أبيه، ولا حتى البحر مثل صديقه، فعمل في مهن مختلفة، منها شرطي في الموسيقى العسكرية بشرطة الشارقة، ورغم أنه كان موهوباً، إلا أنه ترك ذلك الميدان، إذ كان لا يرى نفسه إلا حاملاً لسلاح، لذا التحق بعد حين بشرطة رأس الخيمة، ليحمل رقم الشرطي 190. لا ينسى قلم المؤرخ عبدالله الطابور مهنته الأصلية، وكونه شغوفاً بالتفتيش في خفايا الوثائق، لذا تحفل الرواية بحوارات مطولة حول ما كان أحداثاً مفصلية في تلك الأيام، لاسيما خلال مخاض اتحاد دولة الإمارات، وما صنعه الإنجليز، وتمهيدهم السبيل للطرف الآخر للاستيلاء على الجزر الإماراتية.
لكن تعود الرواية إلى غايتها الأسمى، لتصور اليوم الأخير في حياة البطل سالم، ومقاومته هو وخمسة من رفاقه للمحتل، لمدة ثماني ساعات بأسلحة متواضعة وذخيرة محدودة، سرعان ما نفدت، أمام طائرات وجنود كما صورت الرواية، حتى سقط سالم شهيداً على جزء من أرضه الغالية، محتضناً سلاحه حتى النفس الأخير.