الطهطاوي أشاد ببشاشة أهلها للغرباء.. وأدونيس: لا مدينة تضاهيها
باريس البهية والمثقف العربي.. عشق موصول من رفاعة إلى «أبنائه»
اعتبر صاحب «الثابت والمتحول» أن باريس هي الأسطورة والعالم الهائل المتنوع والغني، وأن ولادته الثالثة كانت فيها، مشيراً إلى أنه كتب معظم أغاني مهيار الدمشقي فيها.
مارسيل خليفة قال إنه على الرغم من الضباب الذي يخيّم على باريس فهي مدينة النور، وفيها ثقافات كبيرة ومتعددة، ويذكر أن لقاءه الأول بمحمود درويش كان فيها، خلال أمسية تضامن مع الشعب الفلسطيني.
عشاق باريس «البهية» ــ كما وصفها شيخ متنوّر معمّم ــ بلا حصر، محبّون ومنتمون بالاختيار لا بالجبر، انتفضوا حينما عاشت «وردة العالم» ليلة الرعب والدم، أخيراً، فهي المدينة «الأسطورة» و«كل شارع فيها عالم قائم بذاته»، كما قال بلزاك.
بقلم منصف، ونفس سوية، راح الشيخ الأزهري رفاعة رافع الطهطاوي يدوّن ما يرى، ويصف مشاهداته، فينسب الفضل لتلك المدينة البهية.. والمفرحة بيوتها وحدائقها وغيرها، على حد وصفه، لتقع عينه على الكثير الذي سجله في كتابه. قلم بعيد عن التعصّب يستوقف القارئ أن قلم رفاعة رافع الطهطاوي بعيد كل البعد عن المغالاة، وأن العقل الذي تربّى على المتون والحواشي والنصوص القديمة لا يعادي الحداثة، ولا يغلق عينيه عن أنوار مدينة التنوير باريس، لذا لا يفخخ كلماته بالتعصب.. ينتقد ما قد يراه مجافياً لقيمه، لكنه يتمتع بروح سماحة سارية بين السطور، لا يصطدم بشيء، ويتقبّل الآخر كما هو، ويتعايش مع من أكرموه في بلادهم، فهو مثلاً حينما يصف بعض عادات الفرنسيين وطرائق حياتهم، يتطرّق إلى الحانات التي تقع في كل شارع، ويروي أن أحد السكارى ناداه مرة بـ«يا تركي.. يا تركي» وهو يترنح، فما كان من رفاعة إلا أن سند الرجل، وأدخله إلى إحدى الحانات، وقال لصاحبها مازحاً: بكم تشتري هذا؟، كما ذكر في حادثة طريفة في كتابه: «تخليص الإبريز في تلخيص باريز». |
شكّلت باريس ــ ومازالت ــ حالة خاصة للمثقف العربي، الذي ولد «بعضه» في هذه المدينة من جديد، وكذا لكل الأنفس السوية في جهات العالم المختلفة، فهي المدينة التي تسبق البلد (فرنسا) وتغني عن قارة كاملة أحياناً، والفضاء الذي صار وطناً روحياً للملايين، ومنفى اختيارياً لمبدعين وباحثين عن هواء مغاير، فثمة كلمات بديهية تستدعيها وتقترن بها، في مقدمتها الحرية والجمال وكثير من العدل.
من الممكن في هذه المساحة، سرد حكاية طويلة، بطلاها: المدينة المتفردة (باريس) والمثقف العربي (قد يكون اسمه رفاعة رافع الطهطاوي وكثيرين من أبنائه المثقفين ومناصري التنوير، محمد عبده، طه حسين، توفيق الحكيم، سهيل إدريس، أدونيس، مارسيل خليفة، أحمد عبدالمعطي حجازي، جورج البهجوري، محمد أركون، محمد برادة، وغيرهم)، فالمدينة هي الحاضنة لهؤلاء وسواهم، فكان «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، و«الأيام»، و«عصفور من الشرق»، و«الحي اللاتيني»، وغيرها من الروايات والأبحاث التي دوّنها المثقف العربي، وهو تحت سماء ذلك الحيز المحرّض على الفكر والتمرد والإبداع والانطلاق.
رادة النهضة
قد تكون بداية الحكاية من قبل منتصف القرن الـ19، حينما قرّر محمد علي باشا، حاكم مصر، ابتعاث مجموعة من أبناء البلد إلى فرنسا عام 1826 لينهلوا من علومها، ويكونوا رادة النهضة حينما يعودون، وبينهم أزهري يسمى رفاعة رافع الطهطاوي، كان المفترض به أن يؤم المبتعثين ويخطب فيهم، وليس مطلوباً منه أكثر من ذلك، لكن النفس الوثابة لذلك الأزهري، تسامت إلى مهام أخرى، بعدما تفتحت العين في فرنسا، وباريس تحديداً، على عوالم مغايرة، وكوْنٍ مختلف.. لذا سعى الشيخ المعمم إلى «كشف القناع عن محيا هذه البقاع»، في كتابه المؤسس: «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، أو «الديوان النفيس بإيوان باريس»، إذ اقترح الرجل لمؤلفه عنوانين، رغم أن الأول هو المشتهر، والأكثر تداولاً.
بقلم منصف، ونفس سوية، راح الشيخ الأزهري يدوّن ما يرى، ويصف مشاهداته، فينسب الفضل لتلك المدينة البهية.. والمفرحة بيوتها وحدائقها وغيرها، على حد وصفه، لتقع عينه على الكثير الذي سجله في كتابه.
هام رفاعة عشقاً في باريس بشكل خاص، رفع قدرها ــ وهي تستحق ــ على سواها من الحواضر والعواصم، وأبرزها سابقة لزمنها: «باريس تفضل على لوندرة (لندن) بصحة هوائها كما قيل، وطبيعة القطر والأهل، وبقلة الغلاء التام. وإذا رأيت كيفية سياستها، علمت كمال راحة الغرباء فيها وحظهم وانبساطهم مع أهلها، فالغالب عن أهلها البشاشة في وجوه الغرباء، ومراعاة خواطرهم، ولو اختلف الدين».
ويشيد بتصميم المدينة وجماليات العمارة: «ومما يدل على عمارة هذه المدينة كون أهلها دائماً في الزيادة البينة، وأرضها في الاتساع، وعماراتها في التكميل والتحسين، وهمتهم جميعاً في توسيع دائراتها بالأبنية العظيمة.. وبذلك يكثر أهلها.. فوق مليون من الأنفس». وينطلق إلى الحرفيين وأصحاب المهن، مبدياً إعجابه بما تشكله أيديهم، وكذلك كون كل واحد فيهم ملماً بثقافات رغم أنه في النهاية حرفي، ويقول في هؤلاء، وأهل باريس وفرنسا بشكل عام: «كل صاحب فن من الفنون يجب أن يبتدع في فنه شيئاً لم يسبق به، أو يكمل ما ابتدعه غيره.. ومن طباع الفرنساوية التطلع والتولع بسائر الأشياء الجديدة، وحب التغيير والتبديل في سائر الأمور.. ومن طباعهم المهارة والخفة.. ومن طباعهم الغالبة: وفاء الوعد، وعدم الغدر، والصدق، ويعتنون كثيراً بالمروءة الإنسانية».
ولا تغيب ملامح الجمال والنظافة عن قلم رفاعة الذي يسجل: «كما أن باريس نظيفة فهي خالية أيضاً من السميات، بل ومن الحشرات فلا يسمع بأن إنساناً فيها لدغته عقرب أبداً، وتعهد الفرنساوية تنظيف بيوتهم وملابسهم أمر عجيب، وبيوتهم دائماً مفرحة بسبب كثرة شبابيكها الموضوعة بالهندسة وضعاً عظيماً يجلب النور والهواء داخل البيوت وخارجها وظرفات (مصراعيها) الشبابيك دائماً من (القزاز)، حتى إذا أغلقت فإن النور لا يحجب أصلاً، وفوقها دائماً الستائر: للغني والفقير، كما أن ستائر الفرش التي هي نوع من الناموسية غالبة لسائر أهل باريس». ويضيف عن ملمح آخر: «ومما يبهر العقول في باريس دكاكين الكتبية، وتجارات الكتب.. ولا تمر سنة بمدينة باريس إلا وتخرج من المطبعة كتب معدومة النظير».
عاصمة العالم
بالانتقال أكثر من قرن، يستمر العشق موصولاً بين المثقف العربي، وباريس التي صارت بمثابة عاصمة للثقافة الغربية، والعربية أيضاً، تحتضن أقلاماً وعقولاً من الشرق والغرب، ولا تفرّق بين قادم من الولايات المتحدة، وآخر من منطقة ملتهبة في الوطن العربي، ليجد الجميع نفسه وسط آخر صراعات الفنون والفلسفة بكل صورها.
في مطلع ستينات القرن الماضي حط «مهيار الدمشقي» أدونيس في باريس التي يصفها بـ«الأسطورة والعالم الهائل المتنوع والغني الذي اسمه باريس.. لا أرى على الإطلاق أي مدينة تضاهي باريس»، معتبراً أن ولادته الثالثة بعد دمشق وبيروت كانت في مدينة «الجن والملائكة» التي كتب فيها معظم أغاني مهيار الدمشقي، واستضافته وأحسنت وفادته هو وزوجته الناقدة خالدة سعيد.
مثقف عربي آخر، صاحب ريشة وقلم، رأى - كما أدونيس - أنه ولد من جديد في باريس أيضاً، وهو الفنان المصري جورج البهجوري: «ولدت مرتين، مرة في البهجورة (الأقصر بصعيد مصر) عام 1932، ومرة في باريس عام 1969.. باريس أجمل مدينة في العالم.. جئت إلى باريس عشقاً لتاريخ الفن وللمدرسة التأثيرية وفنانيها»، حسب كتاب «سيرة ومدينة.. مبدعون عرب في باريس»، حوارات أجراها عيسى مخلوف، من إصدارات إذاعة الشرق في باريس. ويعرض الكتاب كذلك شهادات لمبدعين بالجملة شعراء ونقاد وفنانين بمشارب متنوعة، ومن بينهم اللبناني مارسيل خليفة الذي يقول عن المدينة: «بالرغم من الضباب الذي يخيّم عليها فهي مدينة النور، وفيها ثقافات كبيرة ومتعددة»، ويذكر أن لقاءه الأول بالشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش كان فيها، عام 1983 في أمسية للتضامن مع الشعب الفلسطيني. ومع أن خليفة يبدأ من العالم السفلي للمدينة ومشرديها القابعين في محطات المترو، إلا أنه لا يلبث أن يعود إلى عالمها العلوي، حيث أنوار برج إيفل والثقافة والفنون بكل خطوطها.
كاتب آخر، وهو التونسي عبدالوهاب المؤدب يلتفت إلى ملمح آخر، وتفصيلة مغايرة في باريس التي وصلها في عام 1967 شاباً دون الـ20، «هي مدينة جمال وتمثل إليّ كل ما أحب، وتبلور نوع العيش الذي أريده.. إبداع مطلق داخل القديم.. أنا من المشائين.. وفي المشي يتبلور النص في الداخل قبل أن يصل إلى الورقة البيضاء ليصبح كلمات. باريس من المدن التي يمكن المشي فيها».
بينما يقول الناقد المغربي محمد برادة عن المدينة: «تظل باريس مرصداً لكثير من التحولات التي يعيشها (العالم)، بمعنى أن باريس لها هذه الصفة، صفة الشفافية، مثلاً إذا كان هناك حدث سياسي أو ثقافي سرعان ما يجد أصداء واسعة في المدينة».
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news