إدوار الخراط.. كولاج متفرّد من «الزمن الآخر»

بعد مسيرة تبدو كولاجاً إبداعياً متفرّداً، تمتزج فيه الحداثة والكتابة عبر النوعية بعشق التراث واللغة «حتى التدله»، ودّع الروائي المصري إدوار الخراط قلمه وريشته ومحرابه المكتبي، وكثيرين من «أبنائه»، الذين رأوا فيه أحد «الآباء الحقيقيين» في ساحة يعزّ فيها العثور على من يحتفي بالجيل الجديد، ويحتضن نتاجه، ويعكف على قراءته بمحبة، كما كان صنع مبدع «رامة والتنين»، و«ترابها زعفران».

إدوار الخراط (1926 - 2015) فنان شامل من «الزمن الآخر»، كما عنوان إحدى رواياته، فهو الشاعر والروائي والناقد والتشكيلي والمترجم وصائغ المصطلحات ومبدعها، وعاشق الإسكندرية ذات التراب الزعفراني (المدينة العظمى كما يصفها)، وفي الوقت ذاته الجنوبي الآتي من حواري أخميم، الهائم بين ساحات موالد «العدرة» و«الست دميانة»، والأيقونات العتيقة، وليس غريباً أن يطلّ بوجه شيخ دمياطي يقاوم بضراوة من يريدون احتلال وطنه في العصور الوسطى، كما برز بطل واحدة من رواياته الأولى «أضلاع الصحراء».

المتمرّد مكتشف اللغة

«إسكندريتي»

من الروح يسرى عشق مدينة الإسكندرية في كتابات إدوار الخراط، ليسيطر على العنوان والمتن في غير عمل، وعن إسكندريته يقول إدوار الخراط: «الإسكندرية عندي، مدينة سحرية، ترابها زعفران، حقاً. ولذلك فإن كتابي السابع اسمه هو هذا: ترابها زعفران. الإسكندرية شط يقع على حافة بحر الأبد، حافة المطلق. وعندما أنظر منها إلى أفق البحر، أعرف كما علموني في المدرسة والكتب أن هناك شاطئاً من الناحية الأخرى، ولعلني لا أصدق، ولا أقتنع بذلك حقيقة، أبداً، يس هناك وراء هذا الأفق شيء. هذا امتداد لعباب المجهول، إلى ما لا نهاية، كأنني أقف هناك على شاطئ الموت نفسه، البحر والموت عندي مرتبطان بروابط انفعالية ورمزية، وبتجارب لاذعة المرارة لا يمحى طعمها أبداً من على لساني».

«أب الحداثة في الأدب المصري المعاصر»، و«شاعر الرواية»، ومبدع «الكتابة عبر النوعية»، وغيرها كثير.. أوصاف ربما حاول النقاد إلصاقها بإدوار الخراط، الذي رسم لقلمه مساراً مغايراً، بداية من مجموعته القصصية الأولى (حيطان عالية)، وحتى «كولاجاته» الروائية، وأعماله التجريبية التي تسافر عبر الأنواع، وتتمرّد على ضفاف كل لون أدبي، ليصير نصّه «مجمع فنون» تتجاور فيه اللوحة والقصيدة والمشهدية وغيرها.

تبدو اللغة «متعة اكتشاف» لدى إدوار الخراط، لا يمل في معظم كتاباته من أن يداورها ويحاورها، يعكف عليها لكي يصنع منها تحفته الخاصة، وتراكيبه التي لا تشبه سواها، تلك التي تختزل موروثاً ملوّناً بكل الظلال والأطياف والثقافات، لتطل لغة الخراط مصقولة وحوشية ولينة ومرهقة وممتعة في آن واحد.. تطول الأوصاف، وتبدو ممتدة بلا نهاية في نصوص عدة لإدوار الخراط، وكأن اللغة ولّهٌ وغايةٌ لا تدرك، ولذا يظل القلم يطارد الصور الأسطورية التي يبحث عنها خيال صاحب «رامة والتنين».

حلم الـ1000 جنيه

«أضلاع الصحراء».. رواية لم تنل حظ نظيراتها من الشهرة لإدوار الخراط، لكن كان لها موقعها من قلب صاحبها، ربما لأنها تجربة من البدايات، أكثر وضوحاً وصراحة، لا تسافر عبر الأنواع، ولا تحمل جرعات تجريب كبيرة، لكنها ترتحل إلى التاريخ، وترتبط كذلك بحكاية إنسانية تتعلق بإدوار الخراط نفسه، إذ قرأ في نوفمبر 1959 إعلاناً في الصحف عن مسابقة بمناسبة ذكرى لويس التاسع، وثمة جائزة مرصودة قدرها 1000 جنيه، لكن ما اصطدم به الكاتب الشاب حينها هو عامل الزمن، إذ كان آخر موعد لتسليم الأعمال هو 30 ديسمبر، ولذا صرف الخراط الفكرة عن رأسه، ولكن «1000 جنيه يعني ثروة حقيقية بمعايير ذلك الزمان، ثروة حقاً، ثم إن الموضوع يستثير الحمية»، كما الكاتب في شهادة له.

بعدها، بدأ الخراط في إعداد قائمة المراجع القديمة والجديدة في اللغات الثلاث، التي يتقنها ويترجم منها وإليها (العربية والإنجليزية والفرنسية)، ولكن اتضح للشاب ذي الـ33 عاماً الذي يطارد حلم الـ1000 جنيه، أن قائمة المراجع ستتكلف 13 جنيهاً «وهو مبلغ مهول في ذلك الوقت. نزلت البلد واشتريت الكتب، اقتطعت الجنيه بعد الجنيه.. واعتكفت في البيت لمدة أسبوعين، أقرأ المراجع، أستخلص منها مذكرات وقصاصات وأنسقها.. بدأت أكتب في سباق مع الزمن (كما أكتب دائماً). وكنت لا أنام إلا ثلاث أو أربع ساعات».

وبالفعل أنجز الشاب الرواية، وتقدم بها إلى المسابقة، ولكن الـ1000 جنيه لم تصب جيب الخراط الذي يروي: «ذهبت فلوسي ووقتي وجهدي سدى. قلت لنفسي لا، لم يضع شيء، استمتعت بالكتابة وبقراءة متعمقة حول حقبة أحببتها».

بعيداً عن شجرة الدر

يستوقف القارئ في «أضلاع الصحراء»، التي كتبها الخراط - كما روى - حالماً بجائزتها السخية، أنها تحمل روح مبدعها وبصمته الخاصة، ورغم أنها كتبت على عجل، فإنها تتميز بكثير من السمات، فثمة معالجة مغايرة للسائد حينها في الرواية التاريخية، فالراحل المسكون بآمال شعبه وناس الحواري الضيقة وهموم طبقات غير مرئية، يذهب إلى التاريخ باحثاً عن نظرائهم، يسلم أدوار البطولة لأمثال هؤلاء، يستدعي شجرة الدر الفاتنة وزوجها الملك الصالح في صفحات معدودة، ويودعهم بعدها، ويهب فضاء العمل لآخرين من «المهمشين»، ومن تجاوزتهم أقلام المؤرخين الرسميين المهمومين بالسلاطين وأمراء المماليك، وملوك الطرف الآخر لويس التاسع، وقواده الذين يصحبهم في حملته على مصر.

يعلي الخراط من شأن بطل شعبي (الشيخ عبدالله)، يفصّله بشكل قريب من شخصياته: متصوّف يرقى حلمه إلى بشارة واستشراف لنصر قادم عما قريب، حتى ولو كان الغزاة يحاصرون مصر، ويحبسون أهلها في مدينة.

ويُعنى الخراط دوماً بتقديم تصوير مستغرق لعناصر الرواية، في مقدمتها الشخصية، فهو مثلاً يصور بهيّة (إحدى الشخصيات الرئيسة) في مشهدها الاستهلالي الأول بشكل تفصيلي، بحيث يكاد لا يفوّته شيء: «هذه المرأة تقبل من وراء مبنى السبيل، تنحني في لدونة ورشاقة أمام الدواب، كأنها تلتقط خطواتها التقاطاً من بين المسقى وأكوام العلف الصغيرة. وجسمها الرطب الغض كله يترقرق كضحكتها - لا ريب أنها كانت ضحكتها - لكنه كالماء في قربة مطواعة ملآنة، يترجرج ولا ينسكب، من خلف ثوبها السابغ الذي يضيق مع ذلك على مواضع الفتنة، ثوب من القماش العنابي الغالي مخطط بحمرة وصفرة، تتمنطق عليه بحزام عريض من الديباج الفستقي يدور ببطنها، وينهض من عليه نهداها الراسخان، على ما يحدسه البصر فيهما من ارتخاء خفيف، وهما يترجرجان إذ تعتدل بعد انحناء، ويضمهما الثوب المخطط في مسكة عاشقة ملتفة، وجهها السافر الصبوح قمحي منور بالجمال، في ملامحه دقة ونضرة كأنها طفلة.. حتى إذا وقعت عيناها عليه ارتعد من وقع نظرتها العميقة من عينين واسعتين دعجاوين سوادهما متلالئ يسطع بالتماع غريب مخضل. تحت أهداب طوال لها ظلال داكنة مرمية على عظام الوجنتين اللطيفتين، وتنوس عذبات شعرها مغلفة من تحت عصابة من القصب مدورة وثيقة تلف شعرها الأثيث وتنسدل على جدائله الملقاة على العنق».

تلك بعض إشراقات إدوار الخراط، التي تدل على اهتمامه منذ بواكير أعماله بالاشتغال على اللغة وتجلياتها، والبحث عن عوالم سردية مغايرة.

الأكثر مشاركة