رغم مساحة خشبة المسرح التي تم اختزالها فإن الممثلين تحركوا بحرية وتمكن المخرج من إنجاز جانب كبير من رؤيته. الإمارات اليوم

«زنازين النور».. نجم وإمام وبشار بن برد في دراما تونسية

لم يكن السبب في تواصل جمهور عربي متنوّع حضر العرض الإيطالي المشارك، ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي، مساء أول من أمس، يعود إلى أن الحضور ملم ببعض مفردات اللغة الإيطالية، وهو احتمال بعيد، لكن الأكيد أن كثيرين وجدوا أنفسهم في سياق عرض نجح بأن يجتذبهم، بدءاً من الانطلاقة المشوقة من وسط الجمهور، مروراً باستغلال مثالي للغة الجسد، والإيماءات التعبيرية التي قد تفصح عن السياق الدرامي، قبل المقول اللفظي.

تهنئة

فور ختام العرض التونسي، ازدحمت خشبة العرض بكثير من الفنانين العرب الذين أتوا بعروض منافسة، من أجل تهنئة زملائهم التونسيين على تقديم عرض بمواصفات فنية مميزة، منحت الجمهور متعة الفرجة.

وكان المخرج الإماراتي أحمد الشامسي، أول مهنئي حافظ خليفة مخرج العرض. فيما أبدى الممثل الإماراتي إبراهيم استاذي، بطل مسرحية «اللعبة»، إعجابه الشديد بالعمل، الذي وصفه بـ«الاستثنائي».

وأضاف استاذي: «كالعادة لم يخيب العرض التونسي ما توقعناه، بل ذهب أبعد في أفق الإجادة، ولم يوغل في الرمزية، كما أنه لم ينسلخ عن شاغل العديد من المجتمعات العربية، محتفظاً في الوقت ذاته بقدرة على جذب الجمهور منذ اللحظة الأولى لانطلاقته».

وعلى الرغم من أن العرض يكاد يكون الأطول ضمن عروض المهرجان حتى الآن، فإن خفة ظل الممثلين، وقدرتهم على تقديم دلالات تعبيرية تساند الحوار غير المعلوم بالنسبة للحضور، أفرزت تجربة مختلفة ترى بأن الأداء المسرحي قادر في شروط بعينها على تعويض ليس فقط اختلاف اللهجات، بل أيضاً اختلاف الثقافات واللغات.

من جهة أخرى، كان الحضور على موعد في الليلة ذاتها مع عرض تونسي يكاد يفرض نفسه على اختيارات لجنة التحكيم لعدد من جوائز المهرجان، خصوصاً في ما يتصل منها بالتمثيل، والإخراج، وهو مسرحية «زنازين النور»، من إخراج حافظ خليفة.

أشعار أحمد فؤاد نجم، وصوت الشيخ إمام في الإذاعة الداخلية للمسرح المفتوح، كانت مقدمة قبل العرض لأجواء مختلفة، ليجد الحضور أنفسهم بعد ذلك أمام عمل برؤية وأداء تونسي، ولكن بروح مصرية، من خلال تخيل خروج الصديقين الراحلين الشاعر نجم والشيخ إمام، ليتعايشا معاً مرحلة مختلفة تماماً، هي التاريخ المعاصر الموسوم بزمن «الياسمين»، وما بعده ما أطلق عليه «ربيع عربي».

أداء الممثلين الرئيسين اللذين جسدا شخصيتي أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، لم يدع فرصة للحضور سوى الانغماس في عالمهما داخل زنزانة السجن، ورجفة الجسدين المسجيين أرضاً بدت وكأنها انتفاضة قوية لحدث جلل.

النهوض بجسدين متعبين، ونفسين أكثر تعباً كان سبيلاً لبدء لغة ليست نثراً فنياً تقليدياً، وليست شعراً مطلقاً، بل لغة مسرحية عذبة، تتكئ على الاقتباسات المسرحية من أشعار نجم أحياناً، لكنها لا تقع في فخاخ الشاعرية المفرطة.

الأيادي المكبلة بالقيود الحديدية لم تمنع الفكر والروح من التحليق في فضاءات أوسع، قبل أن تتحوّل الخيالات إلى دافع لتغيير واقعيهما، فيتخلصان من قيديهما، ويقرران التحليق في فضاءات الحرية، خارجين من خلف أسوار السجن العتيق، وهو المشهد الذي تم بحل إخراجي بديع جعلهما أقرب لطائر، يستثمر فتحاً في جدران عتيقة شغفاً لحريته.

التمادي في نسج المتخيل واللامعقول لم يعق الحضور دون ربط ما يدور على المسرح، بما دار بالفعل في بعض دول «الربيع العربي»، فالصديقان المتلازمان يصلان إلى مقابر، ليفاجئا بأن بشار بن برد ينهض من مرقده، وتدور بينهم جميعاً مفارقات طريفة، مؤداها أن التاريخ يعيد نفسه، وأن آلة البطش وخشية الطغاة من صوت العقل والحكمة والشعر، واحد في كل العصور. الإرهاب انعكاس آخر، إذ تظهر في «الجبانة» شخصية متطرّفة تحاول التغرير بهما، ليصلا إلى قناعة بضروة الهجرة إلى «الآخر»، الذي يقدر حرية المثقف، رغم مرارة مغادرة الوطن، ولكن المفارقة أنهم حينما يظنون بأنهم قد عبروا إلى البر الآخر من «البحر المتوسط»، حيث الدول المتقدمة، يفيقون على حقيقة أنهم لايزالون على الشط ذاته، لأن المسافة بين الطرفين أضحت أكبر من أن تطوى، وتعود شخصية بشار في الظهور متخفية لهم، في تأكيد أن الخلاص لا يكون ممكناً بكل الأحيان، وأن العالم الآخر لم يعد ممكناً الهروب إليه، لأنه لم يعد هناك «عالم آخر». وعلى الرغم من مساحة المسرح التي اختزلت، فإن الممثلين تحركوا بحرية، وتمكن المخرج من إنجاز رؤيته الإخراجية، خصوصاً في توظيف الأدوات ذاتها في أكثر من سياق، فمكونات جدران السجن هي نفسها استحالت مدافن، قبل أن يوظفها لتشكل أمواجاً متلاطمة في بحر هائج.

الأكثر مشاركة