كثير من الألم السوري «تحت السما»
رائحة وخصوصية سورية تنبعث من أرجاء المكان، وحتى قبل دخولك إلى مسرح دبي الاجتماعي، في «مول الإمارات»، الذي استضاف العرض الأول للمسرحية السورية «تحت السما»، أول من أمس، تشعر بأن هنا وجهاً آخر لسورية، ملامحه هي التي نعرفها جميعاً في مخيلاتنا، ما بين فنانين ومثقفين، وحتى ملامح أفراد الأسرة السورية، قبل أن يقهقر سلمها الاجتماعي والنفسي والأمني الواقع الحالي.
تلاحم نجح «تحت السما» في خلق حالة من التلاحم العاطفي مع مضمونه وتجلياته على الخشبة، سواء عبر مستوى الحوار الداخلي، أو تقنية الـ«فلاش باك»، التي أدخلت المشاهد في جدلية المشاعر المتناقضة، عبر حوارات الأم مع أبنائها الثلاثة الذين فقدتهم الواحد تلو الآخر بسبب الحرب، كما حواراتها مع زوجها، الذي فقدته أيضاً عقب زيارة لمن سمتهم «العفاريت الزرق» لمنزلها في منتصف الليل، حيث أجاد صليبا في توظيف تلك التقنية من خلال شاشات تموضعت على أنصاف الأعمدة المتهدمة. |
هذا هو الأمر قبل دقائق من انطلاقة عرض مسرحي، وصفه أصحابه أنفسهم بأنه مغامرة، وبدا الأمر فعلياً وكأننا بصدد ولادة، ربما كانت ميؤوساً منها في وقت سابق، لكنها الآن وصلت إلى مرحلة المخاض، ولابد من فتح الستار للكشف عن وجه الوليد المسرحي الجديد.
هذا ما يفسر مبدئياً وجود مخرج العمل ماهر صليبا على الخشبة الأمامية قبل العرض، ثم تقديمه كلمة أيضاً قبيله، على خلاف التقليد المسرحي، فضلاً عن كلمة لكاتبة العمل فادية دلا، والإصرار على أن يكون تكريم الداعمين أيضاً قبل العرض، الذي قدمت له «هيئة دبي للثقافة والفنون» دعماً جزئياً، مشيرة إلى أن العمل الذي وُلد تحت سماء سورية، هو الآن في أفق إبداعي تحت سماء دبي.
حالة من التلاحم الوجداني والعاطفي حققها العرض إذن قبل انطلاقته، مدعومة بتوقعات يقينية بأن الخشبة ستتحول إلى قبسة من الوجع السوري المعاش هناك، وتوقعات بأننا أمام نتاج مزيج من مخرج يمتلك أدواته الفنية باقتدار، وممثلة تمهد لحالة من الارتياح الفني لأن تكون وحدها محور الأداء في عمل مونودرامي، تلمس قصته شغاف القلوب، ليس لأبناء الوطن السوري المكلوم فقط، بل لكل من يمتلك قلباً ووعياً، في سياق قد يكون هامشه إنسانياً وليس وطنياً هذه المرة.
من هنا، فإن جمهور «تحت السما» لم يكن سورياً فقط، على الرغم من أنه مثل فرصة لجمع نماذج من الفنان والمثقف والمقيم السوري على أرض الإمارات عموماً، مسكونين بهاجسين، أحدهما الشغف لمعرفة ماذا يمكن أن يُقال أو يُقدم فنياً عن ما يحدث في سورية، وثانيهما دعم أي عمل فني سوري، باعتباره عملاً من رحم المعاناة.
يتوقع المشاهد أن ينفتح الستار على مشهد دمار من المشاهد التي يطالعها ليل نهار على شاشة التلفزيون، ولم يخيب مخرج «تحت السما» توقعه، لكنه أيضاً لم يغيب حضور رؤية فنية توزعت فيها عناصر الديكور باتقان، لتسمح بحرية حركة الممثلة الوحيدة، وهي حرية تظل مقيدة بمساحة رقعة المكان، الذي يبدو أنه أطلال لبيت كان هنا، ولم يتبق منه سوى أنصاف أعمدة خرسانية ثلاثة، وبعض الأجولة الرملية المجلوبة في الأركان، فيما يعني الخروج منه تعرضها لمخاطر تحيط بالمكان.
يدخلنا صليبا في أجواء المخاطر الأمنية بشتى الوسائل، بدءاً من أزيز طائرات تهيمن على أجواء البداية، مروراً بالغوص في أعماق تلك المرأة، التي تتكشف مأساتها تدريجياً، فهي أم مكلومة، وأرملة منكوبة، وامرأة فقدت كل ما يربطها بالحياة، لتحيا بين هذه الأنقاض، لا تمتلك شيئاً سوى مجرد بقائها «المؤقت» على قيد الحياة. هذه المرأة فقدت أحد أبنائها أثناء تأديته الخدمة العسكرية، وابنها الآخر قُتل بسبب التحاقه بإحدى الجماعات المسلحة.
وعلى الرغم من الإسقاطات المباشرة والمألوفة في جوانب من المونولوج الداخلي للشخصية، مثل التشكك في موقف جارتها «الروسية» ونعتها لها بـ«الكذب» وقراءتها لرسائل نصية لأقاربها الذين ظفروا باللجوء إلى «تركيا» و«ألمانيا»، وتحول لقب «لاجئ» إلى رتبة تستدعي التهنئة حينما تقنن الشخصية أوضاعها، إلا أن حالة الالتباس والتشرذم الفكري، وعدم وجود أي رؤية متفق عليها، تبدو قائمة لدى المرأة نفسها، التي لاتزال لا تعرف «من يطلق الرصاص»، و«من يجعل أبناءنا شهداء، وفي مصلحة ماذا يستشهدون».
يكرس الغوص في أعماق المرأة ومآسيها، حالة أن «لا شيء يقال في سورية»، على مستويين، أولهما أن هناك رسائل غير واضحة ومشوشة تصل، فرؤية العمل غير واضحة، وقد يكون ذلك من فرط محاولة الابتعاد عن الوقوع في فخ المقولات السياسية المباشرة، وقد يكون لحقيقة ألا أحد يتفق على الطريقة المثلى للخلاص، في الواقع، كما في العمل الدرامي «تحت السما».
بدءاً من العنوان على اتساعه «تحت السما»، فكل شيء في الكرة الأرضية هو «تحت السما»، مروراً بحالات المرأة المكلومة، تبدو قبسة من الوجع اليومي السوري، والتقاطة، لا تقدم تصوراً أو استشرافاً، أو حتى اعتراضاً منسقاً ضد ما هو قائم، حيث يبدو العمل أقرب إلى الرصد، المتكئ على الغوص في أعماق تلك المرأة.
«الوجع السوري أقوى مما يمكن أن يقال بشأنه درامياً» حقيقة أقرها ثلاثي العمل، المخرج والكاتبة والممثلة، وهو ما انعكس ليس على الخشبة فقط، بل على إبداعهم أيضاً، لتتحول مقولة «ليس كل ما يعرف يقال» إلى ممارسة إبداع لا يفصح بشكل كامل عن ما يتصوره مبدعوه، ليكرس حالة الالتباس السائدة، لكن هذه المرة على المستوى الإبداعي، وهو هنا، أي العمل، والرقيب هنا لم يعد موجوداً بشكل حقيقي، بقدر ما أصبح بالفعل رقيباً ذاتياً، يجعل جميع أطراف العملية الإبداعية حريصين على أن تكون رسائلهم متسقة مع هذا الرقيب الذاتي، الذي وصفوه بأنه «إنساني» في المقام الأول، خلال المؤتمر الصحافي، لكن العمل أكد أنه يحمل بعض ملامح الرقيب «التقليدي» أيضاً.