حكاية «عصامي» يعيش في دبي منذ 1959

في 18 نوفمبر عام 1959، وعلى برّ دبي، نزل الفتى السنديّ رام بوكساني، بعد خمسة أيام مرهقة قضاها على متن السفينة «دارا»، التي انطلقت من بومباي وتوقفت في محطات عدة، ولم يفكر بوكساني في النزول لمشاهدة معالم تلك المدن، لأنه لا يمتلك فضل مال، لذا آثر أن يقرأ كتباً كانت الرفيق في الرحلة. حالماً بالوظيفة الجديدة وراتبها (125 روبية)، وصل ابن الـ18 عاماً إلى دبي، الجامعة التي علمته التجارة والحياة، على حد تعبيره، والمكان الذي صاغه، وصعد به إلى مدارج عليا. في كتابه «السير في الطريق السريع»، يروي الدكتور رام بوكساني سيرته، وفي القلب منها دبي، التي تحضر في صفحات بلا حصر في الكتاب الذي صدرت طبعته العربية عن دار كتّاب، من ترجمة الدكتور مجيب الرحمن في 460 صفحة. على خلاف التوقعات، تأتي السيرة شبه خالية من الأرقام وأصفار الثروة والصفقات المليونية، لتخيّب فضول قارئ ما ينتظر المقارنة بين حال الموظف الذي تقاضى راتباً متواضعاً، ورجل الأعمال الشهير الذي امتلك شركات، وصار من رموز المجتمع الهندي في دبي، إذ يكتفي الرجل بالحديث عن الغنى واليسر والنعم، ونسمات الصباح المبكر في حديقة «فيلته» بجميرا، ويذهب بحكايا الكتاب إلى دوائر أخرى، ليركّز على التجربة الإنسانية وتفاصيلها، لذا يتداخل العام والخاص، الكبير والصغير، تاريخ شعبه ومأساته الأولى بعد عام (1947)، وما حدث في شبه القارة الهندية، وكذلك حال أسرته الصغيرة، وكيف واجهت الوضع بعد التهجير من حيدر آباد، لتقيم حيناً في مخيمات بومباي، وبعدها ترحل إلى مكان آخر أحسن حالاً (بارودا)، لتبدأ فصلاً جديداً من حكايتها.

يوضح بوكساني غرضه من الكتاب، الذي نشر بلغات عدة: «كل ما أردت هو أن أشارك تجربة حياتي مع الآخرين، وفي سبيل هذا كان عليّ أيضاً أن أنظر إلى تجارب حياتي مع الآخرين.. (وكذلك) تجارب الآخرين، خصوصاً التجارب المروعة لأعضاء مجتمعي السندي أثناء الاستقلال وبعده. يتضمن الكتاب أيضاً التاريخ الشعبي لمدينة دبي بشكل وافر. وعلى هذا فإن الكتاب ليس قصة فرد، إنما هو أيضاً سرد للأماكن والناس والظروف التي ساعدت على نمو فرد وبقائه ونجاحه».

460

صفحة، يضمها كتاب «السير في الطريق السريع» للدكتور رام بوكساني، والذي صدرت طبعته العربية حديثاً عن دار كتّاب، من ترجمة الدكتور مجيب الرحمن.

بوح

يبوح الدكتور رام بوكساني، في كتابه «السير في الطريق السريع» بالكثير، لا يتحرّج من الحديث عما قد يعتبره البعض أسراراً، لاسيما ما يخص الشأن العائلي، وكذلك لا يخفي فلسفته وتفاصيل ديانته وطقوسها.

ويختتم رجل الأعمال السندي الحكاية بامتنان مكرّر للفضاء الذي وفق للعيش فيه؛ دبي التي جاءها مكتشفاً لا يعلم عنها شيئاً، ليؤكد في نهاية المطاف (السيرة): «لقد قضيت جلّ حياتي في استكشاف هذا المكان، وقد أدركت أنني كنت أستكشف المكان المناسب، لقد أظهرت لي دبي طريقة أفضل للحياة، وأنا أحمد الله على ذلك».

يتوقف صاحب «السير في الطريق السريع» قبل محطة دبي (وهي الأبرز) مع الطفولة، ويقلّب في ألبوم ذكرياته، حيث الميلاد في أسرة من الطبقة المتوسطة في مدينة حيدر آباد بالسند قبل التقسيم، ورحيل الأب وبوكساني في السادسة من العمر، ويتوقف أمام نظرة الوداع على الوالد الراحل شاباً (36 عاماً)، ليتعرف الابن مبكراً إلى الموت، وبعده يشاهد الجموع الهائلة التي اضطرت للهجرة في عام 1947، بعد التقسيم (الهند وباكستان).

يحكي بوكساني عن الأم التي باعت حليها قطعةً قطعةً من أجل الأسرة، وكذلك عمله المبكر لتحمّل جزء من الأعباء، فالمدرسة صباحاً، والعمل بعد الظهر، ثم الدوام الكامل بعد ذلك، وترك المدرسة بعد الصف العاشر، إلا أنه عاد إليها بعد عامين للحصول على شهادة تساعده على تحصيل وظيفة أفضل، تحدوه في ذلك حكمة الأم: «زيدوا أسبابكم قبل أن تزيدوا توقعاتكم».

وباعتزاز يتحدث بوسكاني عن شعبه السندي وفضائله التجارية الفطرية وكذلك تماسكه، وقد يستشعر قارئ ما أن ثمة إلحاحاً في ذلك، وربما كان الأفضل أن يخفف تلك النبرة، ويدع سيرته تختصر حكاية من تنتمي إليهم جذوره، ومن يقول عنهم في مستهل الباب (الفصل هو الأدق) الخامس: «لسنا مختلفين، نحن متميزون فقط، ثمة فارق بين الاثنين».

بيتي الثاني

بامتنان شديد ومحبة حقيقية، يسرد رام بوكساني مسيرته في دبي ومعها، منذ أن كان لا يستطيع تحديد موقعها على الخارطة، وصولاً إلى الطلة الأولى عليها من فوق سفينة رست على بُعد أربعة كيلومترات من الخور «الذي كان ضحلاً لا يتيح دخول السفينة». ويصف لقاءه الأول بدبي: «بدت صفوف المباني والمنازل والبيوت المنخفضة، كأنها تكاد تلامس سطح الماء حينما يكون المد عالياً، لم تكن المباني شامخة ولكن كان لها سحر خاص يجذب القلوب جذباً فورياً. شعرت بالبهجة، كنت أضع قدمي على أرض قدر لها أن تكون بيتي الثاني، الأرض التي ساعدت على تحديد حياتي ومصيري، الأرض التي قدمت لي الفرص لبناء مستقبل مثمر في الأعمال». يومها أيقن الشاب أنه لن يغادر تلك البقعة، إذ اجتذبته روح المكان الذي وصل إليه في نهاية الخمسينات، ولم تكن ثمة كهرباء، أما المياه فكان يجمعها أناس «من آبار الجميرة (جميرا) في علب الكيروسين، وينقلونها إلى دبي على ظهور الحمير أو على العربات».

ويستعرض «العصامي السندي» ليس يومياته هو فحسب في دبي، بل يوميات آخرين، وطرفاً من حكايتهم في مدينة الفرص، مثل أسرة جاشنمال، إذ يروي بوكساني: «في مطلع الستينات كان محل جاشنمال في الطرف النهائي للمدينة بديرة، كان عليك أن تأخذ أبرا (عبرة) من بر دبي للوصول إلى ديرة، حيث لا يوجد جسر يربط بين طرفي الخور. مرة حصلت على عينة من (الشعيرية)... من الخارج، فقررت أن آخذها إلى هيرو؛ لأنني فكرت أن جاشنمال وحده سيرغب في مثل هذه المواد، وبعد عبور الخور مشيت في القيظ وقت الظهيرة إلى محل جاشنمال، حاملاً معي تلك العينات.. كنت متردداً هل سيعجب بالعينات أم لا، لكنه لم يكتم حيرته على أنني قطعت هذه المسافة ماشياً على القدمين في حر الشمس». لذا دعمه وتوثقت بينهما الصداقة.

ويؤكد رام بوكساني، في أكثر من موضع بالكتاب، أن سوق دبي كانت جامعته الأولى، فقال: «الدروس التي تلقيتها في دبي حول الجوانب الدقيقة للأعمال والعلاقات الإنسانية والخبرة التي اكتسبتها عن دقائق السلوك الإنساني، لا يمكن أن توجد على صفحات أي كتاب في المقرر الدراسي أو في قاعة للدروس. تشير الشخصيات التي لقيتها والحوادث التي شاهدتها إلى التنوع الهائل للسلوك الإنساني والثقافة الإنسانية. ومع ذلك تشير أيضاً إلى عالمية النوع البشري بغض النظر عن العنصر واللون وبلد المنشأ. لايزال كثير من هذه الحوادث يرد إلى ذهني، حينما أعود بذاكرتي إلى الماضي.

النادي الهندي

يتوقف بوكساني عند النادي الهندي، وبنائه في لحظة عصيبة (حرب الخليج 91) ألقت بظلالها على الجميع، مشيراً إلى أنه فكر هو وآخرون في رد جزء من الجميل إلى دبي: «فاقترحت أنه سيكون من الأنسب بناء نادٍ ضخم، حتى يكون رمزاً لامتناننا للمدينة التي رعت مجتمعنا خير رعاية، سيكون بناء النادي إعلاناً دائماً لتقديرنا لهذه المدينة». ولا يتوقف صاحب السيرة عن الحكايات الإنسانية، وتفاصيل الذكريات التي تلح على قلمه، فيسرد كيفية اختيار الزوجة، وقصته كمغترب مع شريكة حياته، وكيف عثر الأهل عليها، واضطراره لتركها بعد شهر عسل قصير، مكتفياً بالذكريات، يقول: «افتقدت كثيراً من لحظات ذهبية في حياتي، كانت هناك مناسبات كنت سأستطيع فيها أن أغيّر مجرى حياتنا لو كنت موجوداً في البيت، خذ مثلاً حالة طفلتي الأولى التي بقيت على قيد الحياة لأسابيع فقط بعد الولادة. كنت في بارودا حينما أنجبت زوجتي. تضاءلت بهجتنا حينما علمنا أن الطفلة سقيمة جداً، واحتاجت الرعاية الطبية المكثفة. كانت فينا (الزوجة) بحاجة إلى الدعم العاطفي مني في تلك الأيام الصعبة. لكن لم أستطع البقاء حتى أشاركها أعباءها، حيث كان عليّ أن أسافر إلى اليابان في مهمة تجارية.. وعندما كنت في اليابان جاءني النبأ أن الطفلة ماتت. كانت فكرة فقد الولد مؤلمة للغاية، وتمنيت لو كنت هناك».

وبعيداً عن ذلك الفقد، يروي بوكساني قصته مع الأولاد؛ إذ رزق بثلاث بنات، يعتبرهن من النعم التي حظي بها: «إذا كان لك ولد طيب وناجح في الحياة فأنت أب سعيد، وإذا كنت أباً لولدين ناجحين فأنت أكثر حظاً، وإذا بلغ أولادك الثلاثة الذروة في اللياقة، فلابد أن يكون قلبك مفعماً بمشاعر الشكر والامتنان، وتسجد أمام ربك شاكراً له».

الأكثر مشاركة