جديد الروائي خالد خليفة عن «ورطة الفصل الختامي»

«الموت عمل شاق».. سورية ومشهد من طوفان يحيط بالجميع

صورة

«الموت عمل شاق» وبطلّ مذلّ للأحياء قبل الراحلين في رواية الكاتب السوري خالد خليفة الجديدة.. طوفان يحيط بالجميع في الواقع «الشامي»، ومفردة مهيمنة تسوّد الصفحات كما الحياة: «الموت تحت القصف، تحت التعذيب في المعتقلات، قتل بعد الخطف لطلب فدية، رصاص قناص، معركة، أما الموت كمداً أو بسبب خيانة الجسد لصاحبه، فهي ميتات نادرة هذه الأيام، الموت الذي لا يراكم غضباً لم يعد يعول عليه».

في زمن الحروب «النبيلة» والملاحم الواضحة، ربما كان كل طرف يسمح للآخر بأن «يكرم» موتاه، يمنحه هدنة ليلية كي يواري سوءات من سقطوا نهاراً في المعارك، لكن الواقع هنا غير ــ كما تصور رواية خالد خليفة ــ إذ إن الموت في سورية ورطة ثقيلة لمن رحل ولمن بقي.. للمتوفى وأهله، فالطريق إلى القبر محفوف بالتوقيف على الحواجز (حواجز الكل لا استثناء لطرف دون آخر)، والميت ومشيعوه معرضون للاعتقال والتحقيق والانتظار في الزنازين، بينما يسمح للبضائع بالمرور، حتى يتمنى ذوو الميت لو أن «الراحل» كان «أكياس كمون» كي يسمح له بالعبور دون مساءلة أو انتظارات طويلة.

قلب المبدع

أعمال

للكاتب خالد خليفة (1964) عدد من الروايات التي حققت ذيوعاً كبيراً، لعل من أبرزها «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة»، التي حازت جائزة نجيب محفوظ لعام 2013، وترجمت إلى عدد من اللغات، ونافست على جائزة البوكر العربية.

ومن أعمال خليفة أيضاً «حارس الخديعة» (1993)، و«دفاتر القرباط» (2000)، و«مديح الكراهية» (2006) التي ترجمت إلى لغات عدة، ووصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية كذلك. وللكاتب أيضاً عدد من المسلسلات التلفزيونية، منها «سيرة آل الجلالي» (1999)، ومسلسل «هدوء نسبي» (2009).

«الموت عمل شاق» رواية غير صالحة للمتلصصين، ومن يحاولون شق قلب المبدع قبل نصه، بحثاً عن شعار يوافق توجهاً ما (مع أو ضد)، فصاحب «مديح الكراهية» و«لا سكاكين في مطابخ حلب» يحاكي عالماً «لا يسر عدواً ولا حبيباً»، يصحب القارئ إلى «شام» تبدّل، وبشر تحولوا إلى كائنات همجية.. يزجّ الكاتب بالمتلقي - بحرفية - إلى «ميكروباص» محمّل بثلاثة من الأخوة و«جثة» الوالد (عبداللطيف)، وتختصر الأحلام في دفن «الجثة» قبل التحلل (هكذا كان الوصف دوماً، وليس جثمان، وكأن المعاناة مستمرة في فصل ذلك الراحل الأخير). تشق العربة قلب سورية، حالمة بعبور حواجز (نظام وموالاة ومعارضة ومحاربون من طوائف وجنسيات بلا حصر)، وتتأزم الحكاية، منذ حاجزها الأول، ليفكر أحد الأبناء (حسين) في «رمي الجثة على حافة الطريق» لتنهشها كلاب البراري كما كثيرين في زمن الحرب، لكن الابن الثاني (بلبل) يصر على تنفيذ الوصية الأخيرة لوالده، إذ تعتقل الجثة لأن «الأب كان مطلوباً لأكثر من فرع مخابرات منذ أكثر من سنتين»، ولكن بالحيلة والرشوة تسير الأمور، وتستمر رحلة معاناة أخوة لم يجتمعوا منذ عشر سنوات إلا في ساعات في واجبات صباحات العيد، وفي اللحظة التي مات فيها الأب.

مرارات

يتواصل السرد الموجع، ليعكس مرارات بالجملة، وخرائب الأرواح وما حولها، إذ يضرب خالد خليفة في أعماق شخصياته، يذهب إلى ماضيها وحاضرها، يصور من يعلق صورة الرئيس في صالة شقته، ومن يكسرها، يدع الجميع يبوحون كما يشاؤون، ما يفتح الباب واسعاً لقارئ ما أن يجد هواه على لسان شخصية ثائر، أو مغترب عما حوله يحلم بترك المكان، ونسيان ما فيه.

محكومة بالأمل، تبدو الرواية في أنفاسها الأخيرة، إذ تكرّم «الجثة» التي تحللت وتحقق الوصية الأخيرة لصاحبها، ترحم الأحياء من رائحة «الثائر» وما نجم عن تحلل الجثة، وتعيد «الأخوة الأعداء» إلى دمشق، ليمارسوا حقهم في الحياة من جديد.

ومن أجواء الرواية: «فكر بلبل، العزاء الصامت يزيل رهبة الميت، للمرة الأولى تساوى الجميع في الموت، لم تعد المراسم تعني شيئاً، الفقراء والأغنياء، الضباط الكبار والجنود الفقراء في الجيش النظامي، قادة الكتائب المسلحة والمقاتلون والموتى العابرون ومجهولو الهوية، يدفنون بمواكب هزيلة تثير الشفقة. لم يعد الموت فعلاً يستدعي الانفعال، بل أصبح خلاصاً يثير حسد الأحياء،

سيدفن في الوقت المناسب، قال بلبل لنفسه، لن تتفسخ الجثة في هذا الشتاء البارد، من حسن حظهم أنه لم يمت في شهر آب حين يمهش الذباب الأموات. الموت واحد في كل الأوقات، إلا أنه عبء ثقيل على الأحياء أحياناً. فرق كبير بين رجل عجوز يموت في قريته بين أحبته قريباً من المقبرة، وآخر يموت بعيداً عنها مئات الكيلومترات. شقاء الأحياء يختلف عن شقاء الأموات، لا أحد يحب مصير التفسخ لمن يحبه، يريد صورته في الموت أكثر جمالاً، إنها الصورة التي لا يمكن محوها من الذاكرة، وهي تعبير عن خلاصة البشر، الكائن الحزين تبقى صورته حين ترتخي عضلاته حزيناً، والكائن الكئيب لا تفارق ملامح الكآبة وجهه، غالباً تشبه الصورة الأخيرة صورة الولادة الأولى».

تلك هي الأجواء؛ فالرواية لا تمتلك ترف الابتعاد عن قاموس الموت وحتى رائحته التي تكاد تخنق كل سطر، رائحة ليست منبعثة من الجثة فحسب، بل مما حواليها، فما أكثر الجثث والأشلاء التي يصادفها القارئ على مدى الرواية، وكذلك تداعيات شخصيـاتها، وأحلامها «الميتة» حتى من قبل عام 2011.

وأخيراً؛ يعدّ إقدام خالد خليفة على الكتابة والتصدي لتصوير الواقع المرّ، سلاحاً ذا حدين في هذا التوقيت (أنجز الرواية بين صيفي 2013 و2015، وبين دمشق ومالطا، كما أوضح في الختام)، قد يحسب له ذلك أو عليه: فمن يجرؤ على الإبداع تحت القصف؟ ومن يمتلك جسارة السرد الملتبس و«الحرب» لم تضع - ولا يبدو أنها ستضع قريباً - أوزراها؟ ومن يحكي باستفاضة في ظل التفتيش في ما وراء الكلمات وانحيازاتها؟

تويتر