يوسا وعلماني و«البطل المتكتم».. ثلاثية تفتح الشهية للقراءة
غلاف برّاق، وفاتح للشهية للقراءة؛ ذلك الذي يجمع ماريو فارغاس يوسا مؤلفاً، وصالح علماني مترجماً، كما الحال في رواية «البطل المتكتم» لصاحب نوبل 2010، المبدع البيروفي يوسا. تضرب الرواية ـ كما عادة أعمال الكتّاب اللاتينيين البارزين ـ في عوالم الواقعية السحرية، تغوص في المجتمع (بيرو)، وفي عمق الذات البشرية، تحديداً عبر شخصيات قطعت شوطاً كبيراً من مشوار الحياة، واقتربت من الضفة الأخرى، إذا جاز التعبير: مسنون عصاميون بذكريات وقصص مكتنزة، بعضهم تخطى الـ80 من العمر، فهل ثمة تعاطف من الكاتب مع ذاته وأشباهها؟ (يوسا من مواليد 1936) أم إن السؤال لا وجهة منطقية أو إبداعية له؟ حيث في المقابل تحفل «البطل المتكتم» بشخصيات مملوءة بالصحة والشباب والنزوات كذلك، لكن النصيب الأكبر في قسمة الصفحات هو للآباء الطاعنين في السن، فهم ـ وبعضهم يستعد للتقاعد ـ من يديرون الحكاية، وقلبها العفي، من البداية وحتى النهاية.
خارج التوقعات
أعمال وجوائز من بين أعمال ماريو فارغاس يوسا، الذي ولد في بيرو عام 1936 «حفلة التيس» و«امتداح الخالة»، و«دفاتر دون ريغوبرتو»، و«شيطنات الطفلة الخبيثة» و«الفردوس على الناصية الأخرى». حاز يوسا شهرة كبيرة حتى من قبل حصوله على جائزة نوبل للآداب في عام 2010. ومن الجوائز التي حازها أيضاً: «أمير أستورياس للآداب» (1986)، و«ثيرفانتس» (1994) التي تعد أهم جائزة للآداب الناطقة باللغة الإسبانية. |
مع ماريو فارغاس يوسا، لن تستطيع، كقارئ، التوقع إلى أين مسير الشخصيات؟ وكيف مصيرها؟ إذ تفاجأ بانحراف صاحب «شيطنات الطفلة الخبيثة» في سكة خيال بعيدة، لتتوالى الأحداث، بلا افتعال بوليسي أو تصنّع، وكأن الذات البشرية هي سيدة التحولات، وبحر يخفي الكثير، هناك بعيداً عن السطح في الأعماق.
وتتبع خيط شخصية واحدة في «البطل المتكتم» تلخص كيفية بناء يوسا لكائناته الورقية، وكيف يحركها بإتقان، ليجعل المتلقي مشدوداً إلى حكايا الماضي والحاضر، إلى واقع بلاده بيرو ومبدعيها وشوارعها، وكذلك أساطيرها.
تستهل الرواية، التي صدرت نسختها العربية عن دار الحوار في سورية، أخيراً، مع «فيليثيتو ياناكيه»، العصامي الذي كوّن نفسه بنفسه، حتى صارت لديه شركة كبرى للنقل في مدينة بيورا، ويفاجأ منذ المشهد الأول بتهديد، بدا أنه من إحدى عصابات المافيا في مدينته: إما الدفع أو العقاب والأذى، لكن الرجل لا يفكر بالمرة في الأمر، إذ يرفض الابتزاز، ويلجأ مباشرة إلى الشرطة، مسلماً إياها نسخة من خطاب التهديد الذي وجده على باب بيته، وحتى حين تنصحه سيدة، تعد بمثابة مرشدة روحية له، بالدفع لهؤلاء الأوغاد، يقول: «ليست المسألة هي النقود يا آديلايدا ـ قال بحزم ـ يجب على الرجل ألا يسمح لأحد بأن يذله في هذه الحياة.. هذا هو الموضوع وليس شيئاً آخر يا صديقتي».
ورغم أن الجميع يدفع تلك الإتاوات، وبعضهم حاول نصح فيليثيتو بأن المطلوب مبلغ صغير لا يستحق المجازفة بالحياة: «تقبّل هذا الواقع ولا تحاول تقويم اعوجاج العالم الذي نعيش فيه».
يتحول الرجل إلى بطل في بلاده، لكن تكشف الأحداث في ما بعد الكثير عن المفاجآت، لاسيما أن للرجل حياة سرية، ومحاولة اقتناص لحظات عشق، كانت بوابة لذلك الابتزاز، تنسجها الرواية بشكل متداخل.
يمارس فيليثيتو دوره بعفوية، بلا خطب أو عبارات طنانة، رغم أنه صار نجماً في مجتمعه، يستوقفه كثيرون لالتقاط صورة، وكأنه قدوة يبحث الناس عنها، رافض للابتزاز في زمن ينكسر فيه الجميع ويدفعون ويخضعون بلا تفكير، بينما ذلك الرجل يتخذ سبيلاً مغايراً، بل ويتحدى تلك العصابات، وينشر إعلاناً في صحيفة معلناً موقفه المتفرد.
تشويق محسوب
تشويق محسوب، لا يزيد ولا ينقص، يديره المؤلف يوسا في روايته، كما أصحاب الأقلام المبدعة الحقيقية، فنهايات الفصول، لا تسلم القارئ إلى البدايات التي تليها، فثمة قفز برشاقة بين شخصيات وأحداث عدة، والخيوط تتفرّق ثم تتلاقى.. و«البطل المتكتم» فيليثيتو، ليس الوحيد الذي تنهض الرواية على أكتافه؛ فهناك أبطال آخرون، آباء أيضاً، يدخلون في مناكفات مع الأبناء، ومواجهات تصل أحياناً إلى رغبة خلاص الصغار من عبء الكبار، متمنين اختصار حياتهم، كي يستطيعوا التنعم بما لم يتعبوا فيه. ولعل حكاية «دون إسماعيل كاريرا» مع ابنيه تلخص ذلك؛ فالثري الثمانيني، حينما تعرض لغيبوبة ودخل غرفة الإنعاش، سمع ولديه ـ أو هكذا خيل إليه ـ يتمنيان رحيله، وأن تكون الغيبوبة أبدية، لكن الأب تعافى، وكانت له خيارات أخرى وهو في هذا العمر.
لا يضحي يوسا في «البطل المتكتم» بشيء من أجل آخر، لا يستسلم قلمه لصوت دون سواه، لينتج في النهاية واقعية سحرية تشبه مكانه البيروفي وناسه بكل أطيافهم: آباء وأبناء، أبطال وأصحاب قيم، وأوغاد مبتزون، وبشر ينتمون إلى جهات العالم المختلفة، تدل أسماؤهم على أصولهم، أفارقة وصينيون وعرب ولاتينيون متجذرون في المكان.
حرفية المترجم
وغير بعيد عن إبداع المؤلف ماريو فارغاس يوسا، تأتي حرفية المترجم الفلسطيني صالح علماني، «الخائن» الذي يسوي الحدود بين «الإسبانية» و«العربية»، ينقل عوالم الواقعية السحرية من الطرف الآخر من العالم، ويجعلها تبدو بلا فجوات، يذلل أساطيرها وحكاياها وجمالياتها ويُدنيها إلى القارئ العربي، وكأنها لم تمر عبر وسيط. ومن أجواء الرواية التي تلخص حال فيليثيتو في لحظة ما: «كانت أسئلة الصحافيين توتره.. تبتل يداه بالعَرق، ويشعر بحيّات تنسل على ظهره، كان يجيب على الأسئلة مع وقفات صمت طويلة، يبحث عن الكلمات، ينكر بحزم كونه بطلاً مدنياً أو نموذجاً يحتذى لأحد. لا شيء من هذا، يا لهذه الأفكار، إنه لا يفعل شيئاً أكثر من تنفيذ فلسفة أبيه التي تركها له في هذه النصيحة كميراث: لا تسمح أبداً لأحد بأن يذلّك يا بني. فيبتسمون وينظر إليه بعضهم بوجوه متسامحة. لم يكن يهمه ذلك. بل كان يجعل من أحشائه قلباً، ويواصل. فهو رجل محب للعمل، رجل عادي، ولا شيء أكثر. لقد ولد فقيراً، بل شديد الفقر.. وكل ما يملكه إنما كسبه بالعمل. يدفع ضرائبه، يتقيد بالقوانين. فلماذا سيسمح لبعض اللصوص بأن ينتزعوا منه ما يملكه بإرسالهم تهديدات إليه دون أن يظهروا له وجوهم؟ إذا لم يستجب أحد لهذه الابتزازات، فسوف يتلاشى المبتزون».