وليد علاء الدين: ابن بطوطة علّمني صناعة الشغف

غالباً ما يقرأ الإنسان العديد من الكتب في مراحل حياته المختلفة، ولكن هناك كتب يتوقف عندها، ويشعر أن ثمة تغييراً أحدثته في فكره ورؤيته لنفسه والحياة من حوله.

«تُحفة النُّظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار» المعروفة برحلة ابن بطوطة، هو الكتاب الأول ـ تقريباً - الذي تستدعيه ذاكرة الكاتب والإعلامي وليد علاء الدين، مدير تحرير مجلة تراث، عن أوائل الكتب التي قرأها في الطفولة بالتوازي مع مجلات «ميكي وسمير» و«تان تان»، وسلسلة «المغامرين الخمسة» التي أَحبّها، على عكس سلسلة «رجل المستحيل» التي كرهها.

يضيف علاء الدين: «تمثل لي رحلة ابن بطوطة - حتى هذه اللحظة - النظير المتخيل لكلمة (كتاب)، إذا قلت كتاب استدعت ذاكرتي شكل الورق الأصفر ذي القطع الكبير بخطوطه الكبيرة المطبوعة طباعة بدائية مائلة».

بداية الرحلة

ولد الرحالة ابن بطوطة في طنجة سنة (703 هـ/‏1304م) في المغرب العربي. اسمه الكامل: أبوعبدالله محمد بن عبدالله بن محمد بن إبراهيم بن يوسف اللواتي الطنجي بن بطوطة بن حميد الغازي بن القريش العلي، تسمّى باسم أمه بطوطة، وهي في الأصل فطومة. وكل المعلومات المتوافرة عن حياة ابن بطوطة مصدرها السير الذاتية المذكورة في سياق حكايات رحلاته. ينتمي ابن بطوطة الى عائلة علماء في القضاء الإسلامي في مدينة طنجة بالمغرب، ويرجع نسبه إلى القبيلة الأمازيغية المعروفة «لواتة». في شهر يونيو من عام 1325 وفي عمر 21، رحل ابن بطوطة من مدينته متوجهاً إلى مكة لأداء فريضة الحج في رحلة استغرقت 16 شهراً، لم يرَ بعدها المغرب لمدة 24 عاماً. يقول ابن بطوطة عن بداية هذه الرحلة «رحلت وحيداً. لم أجد أحداً يؤنس وحدتي بلفتات ودية، ولا مجموعة مسافرين أنضم لهم. مدفوع بحكمٍ ذاتي من داخلي، ورغبة عارمة طال انتظارها لزيارة تلك المقدسات المجيدة. قررت الابتعاد عن كل أصدقائي، ونزع نفسي بعيداً عن بلادي. وبما أن والديَّ كانا على قيد الحياة، كان الابتعاد عنهما حملاً ثقيلاً عليّ. عانينا جميعاً من الحزن الشديد».

ويسترجع صاحب «ابن القبطية» ذكرياته مع كتابه المفضل، قائلاً: «عثرت على رحلة ابن بطوطة من دون غلاف في مكتبة والدي، رحمه الله، التي أدمنت التقليب فيها ـ خلسة - منذ الطفولة المبكرة، فكانت دهشتي بها عظيمة ومتعتي بها أعظم، إنها متعة المتلصص الذي تتضافر كل حواسه لاعتصار أقصى قدر ممكن من حلاوة الأشياء في أقل وقت ممكن، قبل أن يُفتضح أمرُه، ربما لهذا السبب ظلت (رحلات ابن بطوطة) راسخة في مخيلتي إلى لحظتنا هذه، كما وسمت ذائقتي القرائية والكتابية ببعض سمات أستطيع أن أؤكد أنها صاحبة الفضل الأول فيها»، موضحاً انه مازال يفضل في القراءة كلَّ أسلوب بسيط هادف، بسيط بمعنى جميل وغير منفر، وتحديداً غير متحذلق، وهادف بمعنى أنه يكتب من أجل نقل معرفة وتحقيق متعة واستدراج دهشة، «وهذان شرطان أظنّهما رئيسين من شروط الكتابة الإبداعية تحديداً، الجمال من أجل تمرير معرفة أو رؤية أو وجهة نظر».

في المقابل؛ يشير إلى أنه، ككاتب، مازال يسعى قدر جهده إلى تحقيق هذه المعادلة التي أهدته إياها قراءة «رحلات ابن بطوطة» في سن مبكرة، معادلة كتابة جادة غير جافة، مدهشة وممتعة غير مسفة ولا فارغة.

ويستطرد: «كلما انتبهت لحرصي على وصف أدق التفاصيل في كتاباتي محاولاً استبقاء القارئ ممسوساً بالشغف لمعرفة المزيد، أدرك أن هذا الحرص لم يأتِ من فراغ، أتذكر إحساسي أثناء قراءة (رحلات ابن بطوطة)، كما أتذكره كلما أمسكت بنفسي أحوم حول الكليات لأفككها صانعاً منها مشهداً يضج بالتفاصيل الحميمة»، مشيراً إلى أن ابن بطوطة كان يصف البلدان التي يمر بها ببساطة، ولا ينسى وهو يتحدث عن عظائم الأمور أن يتحدث عن أهل المدينة وأزيائهم وطباعهم ومأكلهم ومشربهم، وطريقة صنع الطعام والشراب وطريقة صنع الملابس، وسبب ألوانها واختيار أقمشتها، ويتحدث عن العادات والتقاليد واصفاً ومحللاً، يروي القصص والحكايات، ويجيد استمهال اللهفة وتحريك شغف القارئ إلى آخر لحظة.

يرى وليد علاء الدين أن كتاب «رحلات ابن بطوطة» صاحب فضل في الكثير من عاداته القرائية والكتابية، كما انعكس ذلك في كتاباته، وأقربها رواية «ابن القبطية»، تحديداً في فصل «حكاية أمل» الذي استمتع فيه بوصف الأكلة التي كانت تعدها أمل وهي تفكر في يوسف، «كم كان ممتعاً لي ككاتب أن أستحضر اسم الطعام الذي تعده وكيفية إعداده ومكوناته وخطواته، وأن أربط بين كل ذلك وتطور حالتها النفسية، بينما تستدعي ذكرياتها مع يوسف ويتصاعد بداخلها القلق. شكراً ابن بطوطة العظيم».

الأكثر مشاركة