سرد حميم بين الجدّة والجاحظ وسجن القلعة
جمال الغيطاني «حكايات هائمة» في ذكرى الغياب الأولى
في مثل هذا اليوم، 18 أكتوبر، العام الماضي، غاب صاحب «تجليات» في مسيرة الإبداع المعاصر، وهو الأديب جمال الغيطاني، الذي أهدى المكتبة العربية ما يزيد على 60 عنواناً في ألوان سردية مختلفة، من آخرها «حكايات هائمة»، حقيقية ومتوهمة، عن الذات والآخر وتجارب الحياة بوجه عام.
تعلّم الغيطاني القراءة قبل أن تعرف قدماه طريق المدرسة، من متابعة الأب وهو يتصفح الجرائد بصوت مسموع، ويشير بإصبعه إلى الكلمات، فاجتذبت الابن العناوين الكبيرة، وهام بالحروف منذ طفولته، وبعدها كانت له رحلة عمر مع الكلمات، بدأت بتسلية الجدة التي كان يلتصق بها إلى جوار صومعة القمح، ويقرأ لها أجزاء من السيرة الهلالية. عشق الفتى جمال (من مواليد 1945) الكتب، حتى إنه كان يضحّي بالعيدية من أجل شراء «البؤساء» لفيكتور هوغو، وتقمّص شخصيات الأبطال، إذ مشى محدودباً كما «أحدب نوتردام»، وفي الثامنة من العمر، كان ينطق مثل أبطال الروايات: «كنت إذا تشاجرت مع زملائي في المدرسة.. أقول محتداً: ألقي بقفازي في وجهك.. لم يكن عندي قفاز قط، كذا من تشاجرت معه: أدعوك إلى المبارزة.. يتطلعون إليّ بدهشة، أي مبارزة، أي شهود عليهم أن يختاروا، قالوا لأستاذ الرسم إنني أنطق أموراً وأقول أشياء غريبة، غير أنني لا أبالي، تستمر وتيرة انفعالي: مستعد للموت دفاعاً عن شرفي، رافضاً أي إهانة.. وعندما شكا إليه زملائي حالي، وتفوّهي بالفصحى عبارات غريبة، مؤكدين جنوني، أجابهم بهدوء مبتسماً: ليتكم مجانين مثله».
قصة المجنون بالكتب، يرويها الغيطاني في «حكايات هائمة»، إذ يخصص الراحل قسماً كبيراً للكتب، ليفصّل مسيرة مبدع «الزيني بركات» مع المعرفة، وكيف اهتدى إلى أسوارها، في الأزبكية والأزهر وسيدنا الحسين، فبعد اليوم المدرسي، كان يتجه إلى بسطة كتب الشيخ تهامي، ويختار إصداراً (رواية في معظم الأحيان)، ويظل قارئاً حتى تغرب الشمس، ويفاجأ بأن عمال الإنارة يجهزون المصابيح المعلقة فوق الأعمدة.
تسوق الحكايات الهائمة بعض أسئلة الغيطاني الهائمة حول الكتب: «يصعب، بل يشق عليّ حصر ما قرأته من كتب، غير أنه من السهل تعيين ما حيرني، إنه كتاب الحيوان للجاحظ.. ترى ماذا قصد به؟ لماذا يبدأ بمعنى الكتب، علاقته بها، جماليات الخط؟ ما الصلة بين البلاغة والحيوان؟». ويسرد الغيطاني ملامح الاتفاق مع شيخه الجاحظ، فثمة صلة عشق مع الكتب، والجاحظ كان يضع بجواره على الفراش نصوصاً بعينها، لا يطيق بعده عنها، ولا تختلف حال الغيطاني، حتى إن صديقاً له نصح مخرجاً كان يعد فيلماً عن الغيطاني: «ابدأ بجمال يجلس في قاعة تتكدس فيها الكتب، لقطة من أعلى تظهره وكأنه مجلد من المجلدات». ويضيف صاحب «حكايات الغريب» معلقاً: «أحياناً أرهق فأتمدد على أرضية المكتبة، أتطلع إلى الأرفف التي تتراص فوقها الكتب، بعضها بارز لحجمه. منذ سنوات وقع زلزال.. سقطت الكتب الزائدة على المساحة المتاحة فوق الأرض، لو أنني رقدت ذلك اليوم للقيت مصير الجاحظ».
وفي معتقل القلعة (مر الغيطاني بتجربة السجن في 1966)، يستدعي المبدع الأحبة الغائبين، ويؤنس وحدته بتخيّل الأب الذاهب إلى عمله، أو إلى المسجد، لكنه وقف على مصدر قلقه الأبرز في السجن، وهو افتقاده الكتب: «منذ سعيي وتعرّفي إليها لم أنقطع عنها، حميمية لم تواتني تجاه أي خلق، حتى إن الكتاب الذي أتعلق به أضعه إلى جواري عند إغفائي حتى لا ينأى عني».
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news