رواية الهجوم على «النجيب» مفتوحة بعد غيابه

«الظاهرة المحفوظية» مازالت تشغل «أولاد حارتنا»

صورة

الأحد الماضي، مرت ذكرى ميلاد صاحب قلم شغل - ومازال يشغل حتى بعد رحيله ـ كل «أولاد حارتنا»، فالأغلبية تضع كلماته على العين والرأس، وتصفه ـ وهو يستحق ـ بعبقري الرواية وأميرها وحاصد «نوبل الآداب» العربية اليتيمة، بينما على الطرف الآخر ثمة آخرون سيطر عليهم الراحل بشكل مغاير، فطعنوا في ما قدمه، ولم تقع أعينهم الانتقائية إلا على مشاهد عابرة في حياة كاملة سردها ذلك «العائش» حتى بعد غيابه في أغسطس 2006.


« يوم الكاتب العربي»

وجّه الأمين العام للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، حبيب الصايغ، رسالة إلى الكتاب العرب، في 11 الجاري، الذي يصادف ذكرى ميلاد نجيب محفوظ، وهو أيضاً اليوم الذي أقرّه المكتب الدائم للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب «يوم الكاتب العربي».

وقال الصايغ «لماذا نجيب محفوظ؟ لأنه علامة ومحطة في الطريق، لكن هذا ليس كل شيء، سؤالنا يحوم في سماء كل احتفاء بالرجل سواء في ذكرى رحيله أو ميلاده. وهو السؤال الذي نعرف أننا سنظل نواجهه عندما اخترنا يوم مولده في 11 ديسمبر، لنحتفل بيوم الكاتب العربي؛ فلماذا نجيب محفوظ؟»، وأضاف «ننتهز فرصة احتفالنا بيوم الكاتب العربي.. لكي نعيد طرح التساؤل وننقله إلى الجميع: لماذا صار نجيب محفوظ أيقونة علينا أن نداوم التذكير بها؟».

وتابع «أول ما يتبادر إلى الذهن أن السبب يكمن في أن نجيب محفوظ هو الروائي العربي الوحيد الحائز جائزة نوبل، وهو سبب وجيه قد يرى فيه الكثيرون الكفاية، إلا أننا نأنف أن نختزل تجربة محفوظ الكبيرة في هذه الزاوية الصغيرة، لأننا في المقام الأول نؤمن أن الجائزة نتيجة لإبداعه وحضوره وليست سبباً فيه.. وإذا كانت (نوبل للآداب) قد سلطت الضوء على تجربة نجيب محفوظ في الكتابة؛ بمعنى منتجه الأدبي نفسه، فإننا نرى أن تجربة محفوظ مع الكتابة؛ بمعنى تفاصيل علاقته بما ينتج والتزامه تجاهه، لا تقل أهمية عن تجربته الإبداعية».


- وسط الحظر والجدل والاتهام، واصل محفوظ المسيرة، لم يلتفت إلى الصخب، بتجرّد حافظ على وِرْدِه الكتابي اليومي، كأنه صوفي لا يعبأ لما يدور حوله من عبث، فأنجز الكثير، وقدم للمكتبة العربية رفوفاً من الإبداعات.

مَن أخلص للكلمة وتصالح معها، نجيب محفوظ، مازال مثيراً للحساسية لدى البعض، ولعل آخرهم البرلماني المصري الذي هاجم كاتب «كفاح طيبة» و«الثلاثية» و«اللص والكلاب» وعشرات الروائع، واعتبر «نائب الشعب» أن محفوظ يستحق العقاب، مستدلاً بما في بعض الأفلام المأخوذة عن روايات محفوظ من مشاهد خادشة للحياء.

رواية الهجوم على محفوظ طويلة، متعددة الفصول، ويبدو ألا خاتمة لها، بدأت أولى صفحاتها منذ زمن، من قبل حتى أزمة «أولاد حارتنا»، وحظرها الطويل، وتواصلت حتى طالت عقيدة محفوظ ورقبته، حينما امتدت يد أحد المتطرفين محاولة قتله.

وسط الحظر والجدل والاتهام بالإلحاد، واصل محفوظ المسيرة، لم يلتفت إلى ذلك الصخب، بتجرّد حافظ على وِردِه الكتابي اليومي، كأنه صوفي لا يعبأ لما يدور حوله من عبث، فأنجز الكثير، وقدم للمكتبة العربية رفوفاً من الإبداعات، يعرف قيمتها من عايشها، ويقدّر جمالها أصحاب الأذواق الإنسانية، والمتطلعون إلى النماذج البشرية بخيرها وشرها؛ في لحظات السمو والضعف، وفي أوقات القوة والضعف، من يعون أنهم أمام مبدع نجح في رسم لوحة بانورامية، جدارية ممتدة حافلة بكل الأصناف والتوجهات: من ذوي الألق والأرق والطيبين والمتاجرين بالشعارات وحتى أصحاب العاهات.

«الظاهرة المحفوظية» تستحق الدراسة: كيف عزل المبدع ذاته عن كل ما حوله من صراخ وهجوم؟ وكيف صفّى وجدانه ليواصل مرافقة القلم والورقة من دون التفات؟ وما السر في أن محفوظ كان رغم المعوقات يعلو ولا يهبط، يرتقي من درجة إلى أخرى، ويحلّق حتى بعد طعنة الرقبة التي حرمته الإمساك بالقلم، إذ ظل يملي أحلامه وتجلياته الجميلة، التي تبدو مثل معرض فنون تشبع الباحثين عن الجمال، بكل ما فيها من تكثيف وبرقيات سردية شاعرية في سطور موجزة.

ربما المفتاح هو في محبة نجيب محفوظ للكتابة والجمال والقيم الإنسانية بمعناها الأرحب، وإخلاصه للفن، لا لسواه، وقناعاته بأن الرواية ليست مقام طرح العظة بشكل أحادي، بل هي تشبه الحياة، تصورها، وتتبع مسارب النفوس البشرية، وتعرض أصواتها جميعاً، ولا تدين أحداً، تفتح باب العودة للكل، ولا تدّعي فصل الخطاب، أو احتكار الحقيقة المطلقة، كما الحال مثلاً في رواية «العائش في الحقيقة» التي تبرز جسارة نجيب محفوظ الفنية؛ وتحليقه في مساحات متفرّدة لا تشبه سواه.

في «العائش في الحقيقة» فاجأ محفوظ نقاده وقراءه، فالمبدع الذي ودّع التاريخ القديم في أواسط الأربعينات بعد أن أنجز ثلاث روايات «عبث الأقدار، رادوبيس، كفاح طيبة»، ها هو يعود إليه في الثمانينات، هذه المرة مع شخصية إشكالية، رفعها البعض إلى أشرف المقامات، فيما لم يرها آخرون كذلك، ورموها باتهامات بالجملة، وهي شخصية الملك الفرعوني الشهير أخناتون الذي اصطدم بأركان مملكته: كهنة وساسة وقادة، وحاول أن يؤسس «ديانة جديدة»، توحيداً مختلفاً عن السائد حينها.

ولأن نجيب محفوظ يعي تماماً لوازم مهنته الروائية وفنه الجميل، وأنه لا يوثق فصلاً من التاريخ المقطوع بصحته، وكلمته الأخيرة، فهو يبني «العائش في الحقيقة» بصورة خاصة، تشبه تحقيقاً أو بحثاً عن الحقيقة وسط كمٍّ من الشهادات المتضاربة، فثمة راوٍ يفتش بعد رحيل الملك عن كيف عاش وكيف مات (أو قتل)، ومن ظل بجواره ومن تخلى عنه، ويلتقي كثيرون عاشوا الحدث، وكانوا شهوداً عليه؛ ويسترجعون الذكريات، ولذا لا تخضع لتسلسل، ولا تساق في إطار تفضي فيه المقدمات إلى النتائج، بل قد يعلن البعض حكمه منذ البداية: محبة لأخناتون أو بغضاً له، وأغلب الشهادات تعود إلى الحكاية منذ البداية، وطفولة البطل وكيف وصل إلى قناعاته.

ويحسب لنجيب محفوظ أنه لم يهب التطرّق إلى تلك الشخصية، وجرّب أن يتأملها فنياً، رغم وجود رواية سابقة مميزة، وهي «ملك من شعاع» لصديق محفوظ، الكاتب عادل كامل؛ فمحفوظ يمتلك أدواته الروائية المكتملة، وربما كان واثقاً بأنه لن يتأثر بسواه، أو يقع في فخاخ أسلوب كاتب ذي موهبة مثل عادل كامل.

وتحفل رواية «العائش في الحقيقة» بالإسقاطات التي تلخص أحوال عصور عدة، وليس مجرد ذلك الزمن الذي تعالجه، فالمتضرر الأكبر وسط أي صراعات على السلطة هو مصر: «تلقيت الطعنة في غضب وغادرتها موقناً بأن أحداً لا يشغل باله إلا بمصلحته الذاتية، وأن مصر ضائعة بين أوغاد، وأن تبعة خرابها تقع على الجميع ما بين موالين للملك والمعارضين له، لا على أخناتون وحده، بل لعله أنقى المذنبين ضميراً وأصفاهم نية»، «أما مصر فقد تحملت أخطاء الجميع وتعددت في جسدها الجراح».

لا يعرف القارئ رؤية نجيب محفوظ لتلك الشخصية، ولا وجهة نظره الصريحة في أخناتون خلال رواية «العائش في الحقيقة»، إذ إن الشهادة تأتي في موقف آخر، إذ ذكر محفوظ أنه كان معجباً بأخناتون؛ معتبراً أنه «أعظم ملك في التاريخ، فضلاً عن أنه صاحب أول رسالة في عمر البشرية تقوم على فكرة التوحيد».

كما قدم نجيب محفوظ عملاً إبداعياً سابقاً على «العائش في الحقيقة»، بعنوان «أمام العرش» ينثر فيه جانباً من رؤيته لأخناتون الذي يدافع عن ذاته.

وكعادة نجيب محفوظ لا يترك صوت أخناتون منفرداً، بل يخترع لساناً ناقداً، يرد على أخناتون الذي يردد: «وجدت الناس في ضلال وأنه آن لهم أن يواجهوا الحقيقة بكل أبعادها.. فقال الحكيم بتاح حتب: معاملة الناس فن عسير أيها الملك ومن لا يحسنه فقد تخذله نواياه الطيبة فيقتل من يحب وهو ساعٍ إلى إنقاذه».

وثمة أصوات أخرى تهاجم أخناتون؛ ومنها: «لقد ضيعت رسالتك بسذاجتك وليس رجل الخير إلا مقاتلاً!».

تويتر