بِرك سليمان.. نبع حضارات في وجه الاستيطان والجفاف
بين سفوح الجبال وأشجار السرو والصنوبر، ثلاث برك مائية مستطيلة الشكل، محفورة في الصخر، ومبنية بحجارة ضخمة، حيث تتمتع بمنظر جمالي يبهر الناظرين إليها، فالأشجار العملاقة التي تحيط بها تزيد جمالية المشهد، فيما تتصل البرك ببعضها بعضاً بممرات داخلية منتظمة.
وتعد برك سليمان، التي أنشئت قبل 2000 عام في وادي أرطاس جنوب مدينة بيت لحم، في الضفة الغربية، إرثاً حضارياً وثقافياً، فهي عبارة عن نظام مائي فريد، يبين الشبكات المخبأة تحت الأرض، التي تربط بين أجزاء مختلفة من فلسطين في القدم.
وشكلت البرك السليمانية على مدار 2000 عام المصدر الرئيس للمياه، لمناطق بيت لحم والقدس والقرى المحيطة بها، فنظام قنوات المياه وخطوط الأنابيب المصنوعة من الحجارة، كان يحمل الماء إلى هيروديون، وكذلك إلى منطقة الحرم الشريف في القدس، ولاتزال اثنتان من القنوات قائمة من الآثار الرومانية على مشارف بيت لحم حتى اليوم.
وأنشئت البِركتان الأولى والثانية في العهد الروماني، في القرن الثاني قبل الميلاد، أما البِركة الثالثة فقد بنيت في عهد سليمان القانوني، الذي رمم البركتين الرومانيتين، وبنى بركة ثالثة بجانبهما عام 943 هـ.
وفي عام 1948، أغلق الاحتلال الإسرائيلي برك سليمان، حتى أصبحت الآن مجمعاً لمياه الأمطار، بعد أن كانت في السابق المورد الأساسي لنقل المياه، التي كانت تتدفق إليها من خمس قنوات، بعضها كان يأتي من منابع الخليل جنوباً، إلى قلب الحرم القدسي الشريف.
أصالة التراث
«الإمارات اليوم» كانت على موعد مع جولة تاريخية، جمعت بين جمال الطبيعة وأصالة التراث، حيث مناظر الجبال الخلابة التي تحتضن الأشجار، وتحيط البرك من كل اتجاه، الأمر الذي جعل منها منطقة جذب سياحي، يقصدها الفلسطينيون والزائرون بين الفينة والأخرى، خصوصاً في فصل الربيع والصيف، فيما تنظم رحلات عائلية لمنطقة البرك، للتمتع بجمال منظرها الخلاب، وتراثها الممتد عبر التاريخ.
ورافقنا في هذه الجولة المرشد السياحي محمد الزير، الذي يصف لنا حقيقة برك سليمان في أرطاس، حيث يقول «إن بركتين على الأقل من البرك الثلاث، تعودان إلى العهد الروماني، حيث ظلتا تمدان مدينة القدس بالمياه منذ ذلك الحين، وحتى الانتداب البريطاني على فلسطين، قبل أقل من قرن مضى».
ويضيف «القناة الكبرى بنيت بإمرة بيلاطوس النبطي بالقرب من عين العروب، حيث تمر بمحاذاة التلال وصولاً إلى برك سليمان، ثم إلى بيت لحم عبر نفق، ثم ترتفع إلى القدس، ومنطقة المسجد الأقصى».
ويوضح المرشد السياحي أن سليمان القانوني رمم البرك الثلاث، ومنذ ذلك الحين سميت باسمه، مفندًا بذلك ادعاء اليهود والمستوطنين بوجود أصول توراتية لها، وارتباطها بالملك سليمان الذي يدعون أنه بنى الهيكل المزعوم.
وتقدر مساحة البرك الثلاث، بحسب الزير، بنحو 30 ألف متر مربع، فيما تتسع لقرابة 450 ألف متر مكعب من المياه، حيث بنيت خصيصاً لتزويد مدينة القدس بالمياه، إلا أن الاحتلال الإسرائيلي جعل منها معلماً تاريخياً فقط.
ويلاحظ الزائر للبرك الثلاث مضخات مياه ضخمة يغزوها الصدأ، وصفايات تعمل بالديزل، معطلة منذ ما يزيد على 100 عام، ورغم ذلك لاتزال بمكانها.
يقول المرشد السياحي، خلال حديثه لـ«الإمارات اليوم»، إن «الحيوية في القنوات المغذية للبرك تتجدد خلال فصل الشتاء، وتمتلئ بالمياه في مشهد غيبته سنوات الجفاف طويلاً، ولما يأتي فصل الربيع يرى الزائر جمال المشهد».
وتتميز المنطقة التي تحيط بالبرك السليمانية، بحسب الزير، بجمالية الحدائق والمناظر الطبيعية، حيث امتزاج حداثة التصاميم العمرانية المتمثلة في قصر المؤتمرات، ومول السلطان، بالتراث الثقافي، المكون من المتحف التاريخي الذي تحتضنه قلعة مراد.
في قائمة التراث العالمي
يبدي المهتمون بشؤون الآثار في بيت لحم اهتماماً حقيقياً بالبرك السليمانية، للحفاظ على إرثها التاريخي والحضاري، وحمايتها من أخطار الاحتلال، فقد فتحت شهية المستوطنين للاستيلاء عليها، جراء إهمالها بذرائع مختلقة، ليبرروا سرقتها ومصادرتها.
فيما تحاول الجهات الرسمية الفلسطينية إدراج برك سليمان في قائمة التراث العالمي، لتكون تحت رعاية دولية، رغم وقوعها في الأراضي التي تخضع لسيطرة السلطة والمصنفة بالمنطقة (أ)، وفق اتفاق أوسلو، باستثناء جزء منها يصنف بالمنطقة «ج»، حيث تخضع لسيطرة الاحتلال.
ويقول مدير عام وزارة الآثار والسياحة الفلسطينية، أحمد الرجوب، لـ«الإمارات اليوم»، إن «برك سليمان ذات قيمة إنسانية عالية تفوق الأهمية الوطنية، لذلك سيتم إدراجها على قائمة التراث العالمي، حتى تتم رعايتها بمسؤولة عالمية وتحت مظلة اليونسكو».
تشجيع السياحة
في محاولة لإنعاش الموقع الأثري للبرك السليمانية التاريخية، بدأت شركات فلسطينية بترميمه، وإنشاء مراكز تجارية ومرافق سياحية حوله، لتشجيع السياحة الداخلية فيه.
يقول جورج سلفيتي المدير التنفيذي لشركة برك سليمان، لـ«الإمارات اليوم»، إن الهدف من ذلك هو تشجيع السياحة الداخلية، لوجود فرص استثمار، وخلق فرص عمل ووجود مركز تجاري مميز، في كل فلسطين لا يوجد مكان مميز مثله، توجد فيه طبيعة خلابة تجمع بين التسوق والاستمتاع والتنزه». ويضيف: «تم الانتهاء من أعمال ترميم البرك ومحيطها وتسييجها، فيما يجري الإعداد لوضع نقطة للشرطة الفلسطينية، لمتابعة المكان والحفاظ على إرثه التاريخي». وبين سلفيتي أن المنطقة كانت تعج تاريخياً بالسياح، لكن الحال السياحية تراجعت في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، لتعرض المنطقة للإهمال.
ويؤكد وجود أفق سياحي بالمنطقة، لتحويلها إلى منطقة سياحية بامتياز، واستنهاض الوضع الاقتصادي بالمنطقة.
تشويه إسرائيلي
رغم المظهر الجمالي والحقيقة التاريخية والأثرية لبرك سليمان، فإن البرك التي تقع بوادي أرطاس بدت خلال هذه الأيام على غير عادتها، بفعل إجراءات التهويد الإسرائيلية، التي تستهدف كل المعالم الفلسطينية البارزة.
وبحسب عضو اللجان الشعبية لمقاومة الاستيطان في بيت لحم، مازن العزة، فقد برزت برك سليمان، خلال الأيام الماضية، نقطة تماس مع جيش الاحتلال قرب البرك، حيث أصبح الجنود يصلون البركة بحجة ملاحقة الفتية، لكن هناك مخطط للاستحواذ على البرك، وضمها إلى التراث الإسرائيلي.
ويؤكد العزة أن المستوطنين اعتادوا سرد ادعاءات تاريخية لا أصل لها، لتبرير أطماعهم الاستيطانية، والاستيلاء على الأراضي والمواقع الأثرية، كما حدث مع مسجد بلال بن رباح، شمال بيت لحم، الذي سموه قبة راحيل، وحولوه إلى موقع تراثي يهودي.
أما عن أطماع المستوطنين، فيوضح عضو اللجان الشعبية لمقاومة الاستيطان في بيت لحم، أن اقتحاماتهم لمنطقة برك سليمان، خصوصاً البركة الأولى القديمة تتكرر منذ سنوات، بحجة أنها ترتبط بالهيكل المزعوم، دون وجود ما يثبت ذلك، أو يدعم هذا الادعاء.
وفي إطار محاولات الاحتلال ومستوطنيه للسيطرة على الموقع الأثري لبرك سليمان بين الحين والآخر، لصالح التمدد الاستيطاني، تقف المقاومة الشعبية حصناً منيعاً لحمايته، ومنعهم من تحقيق غايتهم.