«دبي صنعاء والعودة»..اليمن بين يوميات الدم والعشق
بين حرب وحب، ويأس وأمل، وكآبة وسعادة، تعلو وتهبط موجات ـ وكذا انفعالات ـ رواية «دبي صنعاء والعودة» للكاتب اليمني، عبدالفتاح حيدرة، إذ لا صوت يعلو على صوت المعركة سوى «انفجارات العاطفة»، ورغبة العشّاق في المقاومة، حتى لو كانت النهايات محكومة بأيدي حملة البنادق.
تسعة طرق تسلكها «دبي صنعاء والعودة»، يتنازع استهلالها طريقا الحرب والحب، لكن ـ للأسف - الغلبة للأول، لتتعرّج المسالك، وتصل إلى «نهاية واحدة»، تصوّر حال الراوي، والسبيل الذي انتهى إليه، بعد رحلة طويلة وسرد تجاوز 300 صفحة، فـ«دبي صنعاء والعودة» مهمومة بواقعها، تتبع يوميات الدم ولحظات العشق، تنقل أخبار الرصاص وتقرأ رسائل المحبين الرقيقة ومحاولاتهم اقتناص الفرح في بيئة شحيحة به، وتوثق أحداثاً كثيرة وتغوص فيها وتحللها أحياناً بشكل مباشر؛ وليست عدلاً، في الظرف غير العادي، مطالبة الكاتب بأن يستعلي عما حوله، أو أن ينعزل ويبدع بشكل متحرر، فالرواية مرآة واقعية، تبدو مشروخة كما اليمن، سطحها باهت يبحث عمن يعيد إليه بهاءه المصقول.. حتى إن الشخصيات حينما تحاول الفرار من واقعها لا تستطيع، وحينما يبحث الراوي وبعض رفاقه عن سفرة بعيدة، تستولي الأحداث الساخنة في الوطن على السياحة، وتنقلب أحاديث «المقيل» إلى حزن على الحاصل في مدن اليمن.
مفتاح للأمل
تتجاوز «دبي» عنوان الرواية، لتصير مفتاحاً للأمل والمستقبل، والوجه المغاير للحاصل هناك في صنعاء، مدينة تعيد التوازن لروح من فقده، تهب الروائي قدرة على التحمّل، وجرعة من التفاؤل، وسط متوالية الكآبة والأنباء والصور المأساوية: «بدا الوطن موحشاً في الأيام التالية لرحيل محمود؛ انهارت الدولة، وضمرت الآمال، وغرقت الأرض في الدم، تقلصت مساحة الوطن، وتمددت دبي بداخلي أكثر تمنحني بعض العزاء والسلوى وإمكانيات واسعة للصبر، وهي تفعل ذلك منذ دهشتي الأولى بها، وهي تستعرض طرقها ومبانيها النظيفة والمرتبة من خلف زجاج سيارة الأجرة التي تقلني من المطار. كنت حديث العهد بالتخرج في جامعة صنعاء، وقد قرأت كتباً كثيرة، كنت أظن بأنني مثقف، وهذا يكفي لأحظى بمكتب أنيق، ينتظر شاباً مثقفاً لا توفره هذه المدينة، دبي التي كانت في ذهني صحراء ومالاً كثيراً.. يخطر في بالي أن الناس لا يعدون سنواتهم التي قضوها في مواطنهم الأصلية، هم لا يحتاجون إلى ذلك، لن يسألهم أحد عنها. وحدهم المغتربون عن أوطانهم تطرح عليهم هذه الأسئلة. وأنا لم أعد مغترباً، أو هكذا أظن، بعد أن منحتني هذه البلاد كل شيء تقريباً».
محطات
باليوم والتاريخ، يرصد عبدالفتاح حيدرة محطات مفصلية في عمر اليمن والوقائع الأخيرة، لتصير الرواية جزءاً من أرشيف هذه الفترة، وشاهداً فيه من الكثير من الواقع الممزوج بالخيال، شخصيات من لحم ودم، حتى لو بدا بعضها من اختراع الكاتب الذي استهل كل فصول الرواية بأشعار «المبصر» الراحل عبدالله البردوني، وفي الفصل المعنون بـ«طريق الحرب» يكون المفتتح: «جاؤوا لقتلي: هل أعدّ.. لهم رياحيناً وفلا؟.. هم بعض أهلي فليكن.. هيهات أرضى الغدر أهلا.. تأبى حمام اليوم أن.. تلقى صقور النار عزلى.. الفاتحو باب الردى.. لا يملكون الآن قفلا». وتظل أبيات البردوني مفاتيح الفصول، وتنقل بعض الأمل في الأخير (طرق عدة ونهاية واحدة): «إن خلف الليل فجراً نائماً.. وغداً يصحو فيجتاح الظلاما... وغداً تخضر أرضي وترى.. في مكان الشوك ورداً وخزامى».
لا يخفي المؤلف قناعاته الخاصة ووجهة نظره التي تتحكم في مفاصل السرد ومصير الشخصيات أحياناً، ولكن في الآن ذاته ينقل أصوات الآخرين، ويترك لهم الفرصة للحضور والحديث، لتصير الرواية معرضاً متعدد الألوان والمشارب والاتجاهات، تتصارع حتى في مجلس القات الذي لا يخدر الأرق، ولا يفك الحصار عن عاصمة ومدن كانت بالأمس سعيدة.
بين الأحلام المهيضة، تغيب فصول عدة في «دبي صنعاء والعودة»، وتسافر إلى الماضي أحياناً، تبحث عن جذور لشجرة الخيبة، وثمارها شديدة المرارة، لكن يعلو الخطاب في فقرات وأسئلة ومحاورات، ويستحيل السرد الروائي إلى محاكمات، يقسو على الوطن، ويستشهد بكلمات آخرين، كيما تسند وجهة النظر هذه، تستدعي الحكاية كلمات من فضاءات الـ«فيس بوك» وإفضاءات من لا يمتلكون سوى لوحة مفاتيح الكمبيوتر أو الهاتف النقال، في زمن المسلحين وحاملي الكلاشينكوف في كل زاوية.. تسهب الرواية ربما في ذلك، يستسلم صاحبها، ويدع بعض الزوائد لتتسلل إلى الصفحات، بدلاً من الانتقاء، يميل إلى صدق الواقع، لا صدق الفن، فمثلاً الرفاق الذين يحاولون قضاء إجازة ما، ليستريحوا من أخبار اليمن وصور الضحايا، يختارون الحبشة وجهة، ووسط الجمال الإفريقي ومشاهد الطبيعة وحضور القات، يعودون إلى «يمنهم»، ولا يقفون عند ذلك الحد، بل يدخلون في مساجلات حول التشدد والتطرف وجذوره التاريخية في حالة طويلة، كان ينبغي تهذيبها والقفز على الكثير من محطاته: «لكن هشام في هذه اللحظة كان قد عاد كثيراً بالتاريخ، إلى زمن علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان: - لاحظ أن الجزء الكبير من الصراع الآن في اليمن منشأه ديني، السلطة بالنسبة إلى حفيد عبدالملك الحوثي وأخيه من قبله يجب أن تكون في فئة معينة من الناس (أبناء البطنين). لجأت إلى كلمة الطوارئ: أفدي ركبك يا هشام، لا تدع الحوثيين وقصصهم تلاحقنا حتى إفريقيا. كأنه لم يسمعني، واستمر ينقب في الدين والتاريخ: - الخلاف الذي وقع بعد مقتل عثمان وأفضى إلى معركة صفين بين علي ومعاوية جرى بين فريقين مسلمين حديثي العهد برسول الله وتعالميه..».
يتجلى شغف المؤلف عبدالفتاح حيدرة بالرواية بين صفحات «دبي صنعاء والعودة»، إذ يوظف أعمالاً أخرى، ويتماس معها، يستدعي طرفاً من رواية «فرانكشتاين في بغداد» للكاتب أحمد سعداوي، فهل يحذر من تيه مشابه، وكائنات مشوهة تسري بين العاصمتين العربيتين؟.. كما تحضر إشارات إلى روايات أخرى.
«نهاية واحدة» تفضي إليها طرق الرواية التسعة، أو محطاتها الطويلة: تأرجح بين الأمل وعدمه، أو ما يمكن وصفه بشعور معطل لا يدعي رؤية المستقبل، ولا يراهن على شيء: «أستطيع الاعتراف للقارئ بأن إحساسي تجاه الحرب في اليمن أصبح خارج الخدمة، لا يعمل».
الإهداء
«إلى ضحايا الحرب.. الذين ارتقوا إلى السماء، أو سقطوا من ارتفاعات الحب الشاهقة.. الذين لم يعد بمقدورهم قراءة ما نهديه لهم من كلمات أو نكتبه فيهم من رثاء».