مونيكا فيث تفتش في نفس الضحية والقاتل والمحقق
«قاطف الفراولة»..والفتيات الواحدة تلو الأخرى
مبكراً، يحضر «عصير» الإثارة المحسوبة في «قاطف الفراولة»، فثمة ضحية أنثوية، وحقول خضراء بثمار زاهية، ومشاهد سريعة تتنقل بين أكثر من شخصية غامضة البدايات، لا تطغى واحدة منها على الأخرى، تنسج طرفاً من الحكاية، وتعرضها من وجهة نظرها، حتى القاتل نفسه الذي تترك له المؤلفة الألمانية، مونيكا فيث، المجال لكي يبين عن كل ما في ذاته، وما يدور في داخله خلال رحلة اصطياده لفتياته، لاسيما الأخيرة. يحسب لكاتبة رواية «قاطف الفراولة» أنها لا تبالغ في الإثارة والأجواء البوليسية، إذ إن القاتل (هاوي القلادات) معلوم منذ الصفحات الأولى، ورحلة التشويق ترتبط بمحطات أخرى، منها ألا يوقع ذلك القاتل (ناثانيال) فتاة أخرى، وقبل ذلك أن يصل إليه المحقق (بيرت)، الذي يتتبع خيوط الجرائم التي ارتكبها ذلك العامل الذي يقطف الفراولة، وكذلك الفتيات، الواحدة تلو الأخرى.
تغوص الرواية في ماضي كل طرف، لتبرز نقاط الضعف، وتفتش في أمس كل أبطالها، وكأنها ترى أن الحاضر وأزماته وجرائمه تبدأ من مخزون بعيد، تمت بصلاتها إلى تربية قاسية وعصا غليظة ولسان سليط، لتنتج في النهاية بشراً غير أسوياء، قد يستعصي علاجهم، لذا يسقطون في لحظة بعينها، كما هي الحال مثلاً في الجاني الذي تربى بحزام جده، وكلماته الشديدة: «عوضاً عن تأديب الطفل ناثانيال بالكلمات، تعود العجوز أن يترك لحزامه مسؤولية القيام بالمهمة، وفي حال عدم وجود الحزام قريباً من متناول يده، يلجأ إلى العصا أو الملعقة الخشبية أو إلى مشبك الثياب، أو السلسال المعدني الذي يأتي به من المصنع. لا فرق إن حاول ناثانيال عدم البكاء، أو انفجر باكياً، ففي كلتا الحالتين يزداد العجوز غضباً على غضب، لكن الذل الذي لم تفارق مرارته ناثانيال حتى الآن كان أصعب عليه من الألم. لم تحاول الجدة التدخل في الأمر. كانت توافق على جميع أفعال زوجها، الذي كان بحسب اعتقادها رجلاً فاضلاً ومستقيماً. ألم تعلمها الكنيسة أن الفضيلة والاستقامة لا يصحان سوى بالخشونة والألم؟ كان على ناثانيال أن يتبع جده إلى القبو وراء البيت لنيل العقاب، فهناك في القبو لا أحد يسمع صراخه».
349صفحة، تقع فيها رواية «قاطف الفراولة» للألمانية مونيكا فيث، والتي نقلتها إلى العربية آمال نعيم الحلبي، وصدرت عن المركز الثقافي العربي في الدار البيضاء بالمغرب. |
هاربة من الجحيم
على الطرف الآخر، يبدو ماضي الضحية هي الأخرى حافلاً بالمآسي، لذا ابتعدت الفتاة كارو عن أهلها مبكراً، أو بمعنى أدق هربت من ذلك الجحيم الذي لا يتعرف عليه القارئ من كارو نفسها، أو على لسانها، إذ لا يطل ذلك الماضي إلا بعد قتل تلك الشابة، وذلك من خلال رحلة تتبع المحقق لخيوط الجريمة، إذ يحاول التواصل مع عائلة كارو التي لا تعيش بطريقة طبيعية، حتى إنها لم تتأثر بخبر مقتل الابنة، هاجم الأب والأم الفتاة، ووصفاها بالمغرورة، وأكثر من ذلك «أجاب الأب: لا أعلم شيئاً سوى أنها انغمست في البغاء منذ أن بلغت الثانية عشرة». لذا أيقن المحقق (بيرت) أن الفتاة كانت محقة حينما اتخذت قرار الهروب من تلك العائلة، فلا حب ولا ثقة متبادلة بين أفرادها.
نهاية الشابة كارو أتت من نقطة صعفها الرئيسة: الحب المفتقد، الذي تصوّرت أن «قاطف الفراولة» يجسّده، ورأته عوضاً لها عن الأسرة وحتى عن الأصدقاء، وكل التجارب التي مرت بها، وهو ما باحت به لدفتر يومياتها الذي عثر عليه بعد مصرعها، فثمة مشاعر مخطوطة، في قصائد مقتضبة، تشير إلى سيرة تلك الفتاة، وما كانت تبحث عنه في هذه الحياة التي انتهت قبل أن تكمل صاحبتها الـ18 من العمر. ومن دفتر يوميات كارو: «5 تموز/ يوليو.. وأخيراً قبلني! أنفاسه تعبق برائحة الصيف والشمس.. 9 تموز/ يوليو.. لا يحب الماكياج على وجهي. ولا يريدني أن أرتدي ثياباً مثيرة، لا يعلم شيئاً عن الموضة، ويصر على الحشمة أكثر من البابا في الفاتيكان، لكنني أحب ذلك فيه أيضاً.. 11 تموز/ يوليو.. أحلم بكتابة الأشعار عني وعنه وعن حبنا، وتوزيعها من الجو على المدينة كلها، لكي يعلم جميع الناس أنه الرجل الذي أحب، لكنه لا يسمح لي حتى بالكلام عنه».
عن المؤلفة مونيكا فيث من مواليد عام 1951 في مدينة هاغن الألمانية، وبعد انتهاء دراستها للآداب، بدأت حياتها المهنية في الصحافة. وهي حالياً تكرس وقتها للكتابة. رشحت أعمالها لكثير من الجوائز الأدبية الألمانية، وكتبت ما يزيد على 15 رواية، وترجمت أعمالها إلى لغات عدة، وتحول عدد منها إلى أفلام سينمائية، وتعد «قاطف الفراولة» الأكثر نجاحاً من بين أعمالها، كما ورد بالتعريف بالمؤلفة على غلاف الرواية. خيط الدم تحفل رواية «قاطف الفراولة» بالكثير، وتمتلك حصيلة من الإثارة والتشويق، التي قد ترضي متلقياً ولا تقنع آخر، وقد تناسب من يبحث عن وصفة تمزج بين الجريمة والحب والشاعرية والغوص وراء نقاط الضعف وجذورها التي تضرب في الذات البشرية، وكذلك المفارقات التي تلوح منذ عنوان الراوية وغلافها، فرغم كل ما تحمله ثمرة الفراولة من عذوبة وجمال ونكهة وتوهج، إلا أنها تسيل بخيط يشبه الدم في مساحة من السواد اللوني المسيطر على ماضي الكثير من الشخصيات. توجد إشارات تحمل ما يشبه تبرير اللجوء إلى حكايا الجريمة، والأجواء البوليسية، وكأن هناك شيئاً في نفس المؤلفة، يحدّثها بأن درب الأدب الباقي مغاير لذلك، لكن يضطر البعض تحت إلحاح سوق القراء والرغبة في الذيوع إلى القصص التي تطعمهم الخبز وكذلك الشهد، وتكسبهم الشهرة. |
شريكتان
ليس بعيداً عن كارو الصريعة بالحب، تسير أحداث الرواية، فثمة صديقتان تشاركتا معها الحكاية وكذلك السكن (جنا وميرلي)، وحينما لم تحرز الشرطة شيئاً في الوصول إلى الجاني، أخذت الصديقتان على عاتقهما ذلك، لاسيما (جنا) التي أعلنت في كلمتها خلال وداع (كارو) في الكنيسة أمام الجميع بأنها لن تهدأ حتى تتوصل إلى القاتل. لكن المفارقة أن تلك الفتاة المتحدية تقع في حب «قاطف الفراولة»، وتكاد تكرر كل شيء بتفاصيله، وهذا من أبرز نقاط ضعف الرواية، فـ(جنا) التي عاصرت حكاية زميلتها (كارو) تبدو بلا ذاكرة في تلك اللحظة، رغم أنها ابنة كاتبة متخصصة في أدب الجريمة والبوليسية، تطالع ما تخطه أمها، بل وتعدّل فيه أحياناً، وتنصاع الكاتبة الكبيرة لاقتراحات الابنة الصغيرة.
وكما طوى القاتل ضحيته الأولى يطوي جنا، لكن بنهاية سعيدة مختلفة، تنتمي إلى السينما أكثر مما تنتمي إلى الأدب المغزول على مهل، ويمكن للقارئ الحكم لها أو عليها.
إشارات تبريرية
ثمة إشارات في الرواية، تحمل ما يشبه التبرير للإثارة، واللجوء إلى حكايا الجريمة، والأجواء التشويقية، وكأن هناك شيئاً في نفس المؤلفة، يحدّثها بأن درب الأدب الباقي ربما مغاير لذلك، ولكن يضطر البعض، تحت إلحاح سوق القراء والرغبة في الذيوع، إلى القصص التي تطعمهم الخبز وكذلك الشهد، وتكسبهم الشهرة، ويتضح ذلك في: «أمي كاتبة معروفة، اكتسبت شهرتها الواسعة من خلال كتابتها لعدد من القصص البوليسية الناجحة. أما انطلاقتها فبدأت عندما قررت التوقف عن الاستماع إلى نصائح جدتي وصديقاتها بالتزام نمط الأدب التقليدي والحقيقي بحسبهن، ومنذ ذلك الوقت، يتهافت الناس على قراءة كتبها التي تترجم إلى أكثر من 20 لغة، ويتسابق المنتجون السينمائيون إلى اكتساب حق تحويل قصصها إلى أفلام.. يمكنك أن تقطع على أمي عملها لأي سبب وفي أي وقت، إلا عندما تكون في معرض بناء فكرة معينة أو التفكير في تعبير ما. لقد تعودت على ذلك منذ طفولتي، ونمت لدي قناعة بأن الكلمات تهمها أكثر مني».
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news